تأليف: الشاعر الأديب عبدالله بن حمد الحقيل - أمين عام دارة الملك عبدالعزيز سابقاً - عليه رحمة الله وغفرانه -
لله در ذلك الشاعر البليغ حين قال:
يا ساكني دار الحبيب إليكمُ
مني سلامٌ طيب النفحات
يهنيكم قرب الأحبة فارحموا
صبا بكم قد صد بالنزلات
كم ذا أعلل بالوصول إليكم
قلباً شحيحاً مغرم الجنبات
قد نلتم قرب الحبيب فأنتم
أبداً لذلك طيبوا الأوقات
صلى الإله وخلقه طراً على
من فاح منه معطر الروضات
الحج إرث أدبي ثقافي، رحلته وثيقة شجية بين الشرق والغرب، وحظيت رحلات الحج بعناية خاصة من الرحالة والمؤرخين والعلماء عبر مراحل التاريخ الإسلامي وتعددها وتنوعها، وتمدنا منظومة رحلات الحج إلى المدينتين المقدستين مكة والمدينة بأضخم سجل تاريخي لهما، حيث وصف المؤرخون الرحالة والأعيان هاتين المدينتين بكل شاردة وواردة، وكل صغيرة وكبيرة، وقد كانتا محط أنظار العالم.
فالرحالة يقصدونهما لتأدية ركن من أركان الإسلام، ويضيفوا لهذا الالتقاء بعلماء الحرمين الشريفين والنهل من علومهم ومعارفهم، وأثر عن العلماء الذين رحلوا لمكة والمدينة مسائل علمية دقيقة، ومطارحات فكرية سديدة، حيث أرخت للحرمين ولعلمائهما ووصفت السكان والنشاط وبوصلة الحياة.
واتصف هؤلاء الرحالة بالوصف الدقيق، والتقصي الشامل لكل ما شاهدوه وعاصروه، وتمتاز كتب رحلات الحج بكل متعة وامتاع، وبكل أنس ومؤانسة، وكيف لا وفي الحج تتوق النفوس، وتخضل القلوب، وتهيم الأفئدة، وتتقد لواعج الشوق والحنين، ويرجع التأليف حول هذه الفكرة إلى القرن السادس الهجري، حيث أبدع الأدباء في تشقيق العبارات، ووصف الكلمات، وإجادة الأوصاف.
وقد تتبع جمع من الباحثين التأليف في كتب رحلات الحج كما فعل العلّامة «حمد الجاسر» في مجلد واحد أسماه (أشهر رحلات الحج) اختصر الدكتور محمد حسين الشريف أكثر من عشرين كتاباً من كتب الحج القديمة والحديثة في أربعة مجلدات بعنوان: (المختار من الرحلات الحجازية - إلى مكة والمدينة النبوية)، كما أصدر الأستاذ أحمد محمد محمود كتاباً عنونه بـ (رحلات الحج) في ثلاثة أجزاء، وتحدث فيه عن كتب رحلات الحج خلال القرون الثلاثة الأخيرة.
ويغلب على رحلات العلماء المنطق العلمي، والاهتمام بمناسك الحج وأحكام العمرة، غير أن رحلات الأدباء فيها الوصف الشائق، والخبر الذائع، والعبارة الطريفة وذلك لاشتغال الأدباء بأدب الدرس، وجمال الصوت وأنس الرسم.
وقد أبدع جمع وفير غفير من الرحالة والمؤرخين والعلماء في تسطير رحلاتهم، وكل آخذ بنصيب وممن أبدع في هذا المسلك الباحث والمؤرخ والأديب السابق لدارة الملك عبدالعزيز «أ. عبدالله بن حمد الحقيل» عليه الرحمة حيث رصد أكثر من ثلاثين رحلة، غرب الرحالة فيها وشرقوا، والكتاب معنون بالعنوان الموسوم: (رحلات الحج في عيون الرحالة وكتابات الأدباء والمؤرخين)، ومما أشار إليه المؤلف إبداع أهل المغرب على أهل الشرق في الرحلات الحجازية، فالمشارقة تفوقوا على المغاربة في فن الرواية والقصة والأدب، وبادلهم المغاربة في كفتي الرهان حيث تفوقوا على أهل الشرق في فن الرحلات والتاريخ والجغرافيا والفلك.
يقول المؤلف في مقدمته الناهضة: (لقد برز علماء المغرب على غيرهم في تدوين الرحلات، ومن يطالع كتب الأندلسيين «كنفح الطيب» للمقرئ، و»فهرست الاشبيلي»وغيرها يجد أن كثيراً من العلماء الذين رحلوا إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة كانوا رسل علم وحملة ثقافة ودعاة معرفة، حتى أثر عن كتب دونت ما كان يطرح فيها من مسائل العلم وقضايا الأدب - النقد واللغة).
ثم يضيف قائلاً: (وعلى الرغم أن الدور العلمي لرحلات الحج يمكن أن يكون موضوعاً لكثير من البحوث نظراً لغزارته وتنوع مضامينه فلقد حفلت كتب الرحالة بالعرض والمناقشة التاريخية التي تؤرخ لهذه البلاد ولعلمائها ووصف سكانها، أنشطتهم إلى جانب ما فيها من معلومات وتحليلات ذات أهمية باللغة لتاريخ الأماكن المقدسة وجغرافيتها ولسكانها ومناحي نشاطهم وعن الحج ومناسكه وحكمه وأسراره).
ومادة الكتاب ومتنه يتضح في قول مؤلفه: (يسرني أن أقدم نماذج متعددة من رحلات الحج التي سطرها عدد من العلماء والمؤرخين والأدباء فجاءت حافلة بذكرياتهم وانطباعاتهم).
وأما أهم الرحلات التي عرضها الكتاب فهي:
- رحلة ابن جبير الأندلسي 578هـ.
- رحلة الحج في القرن الثامن الهجري كما وصفها الرحالة ابن بطوطة 726هـ.
- رحلة ناصر خسرو شاه 442هـ.
- رحلة ابن عبدالسلام الناصري الدرعي 1996م.
- رحلة ابراهيم رفعت باشا 1318هـ.
- رحلة أحمد حسن الزيات.
- رحلة ابراهيم المازني 1354هـ.
- رحلة السيد محي الدين رضا 1353هـ.
- رحلة محمد حسنين هيكل 1936هـ.
- رحلة عباس محمود العقاد 1946هـ.
- رحلة الشيخ حمد الجاسر من صور الحج النجدي الى بيت الله الحرام 1348هـ.
- رحلة الدكتور مراد هوفمان إلى مكة المكرمة 1992م.
- رحلة السيد غلام رسول مهر 1348هـ.
- رحلة ياباني في مكة.
- رحلة محمد بهجت البيطار 1338هـ.
- رحلة عبد القادر الجزيري 1940م.
- رحلة الدكتور عبد الوهاب عزام 1357هـ.
- رحلة عبدالله كنون 1376هـ.
- رحلة محمد الأمين الشنقيطي 1367هـ.
- رحلة فتحي المراغي 1418هـ.
- رحلة الدكتور مقداد بالجن.
- رحلة محمد أسد 1972م.
- رحلة أحمد أمين.
- رحلة الشيخ علي الطنطاوي 1935م.
- رحلة الأديبة عائشة عبدالرحمن 1392هـ.
- رحلة حسن عبدالوهاب المغربي.
- رحلة الأمير شكيب أرسلان.
- رحلة عبدالله فليبي 1931هـ.
- رحلات الحج في كتب الاستشراق الروسي.
- رحلة الدكتور جعفري لانج إلى مكة المكرمة.
ثم ختم حديثه عن هذه الطائفة الطويلة من الرحلات برحلته إلى مكة المكرمة سنة 1371هـ.
ولا تسل أيها القارئ الحصيف عن متون هذه الرحلات، فهي متوخاة بتميز وتفرد وجهد جهيد، حيث إن المؤلف يعمد إلى متن الرحلة الخاص برحلة الحج فيقتبس ويمثل ويستشهد على موضوع كنه الكتاب وهو رحلات الحج إلى بيت الله الحرام.
وفيها غرابة وطرافه، فقد حفلت هذه الرحلات بوصف بديع للبلاد والعباد وعلمائها وساكنيها وأنشطتها، وكانت ذات تحليلات دقيقة، ومعلومات بديعة، وكان المؤلف يشير إلى ملمح هام وهو كيف خدمت كتب الرحلات تاريخ العالم وجغرافيته، وكم هيجت رحلات الحج لواعج الشعراء، وقرائح الأدباء فأثروا الشعر والنثر والأدب.
وكان المؤلف ينتقي من أحاديث الرحالة أطيب الكلمات، وأغرب العبارات، ففي حديثه عن رحلة ابن جبير الأندلسي كان له مع بطل الرحلة وقفات نقدية ذكية فهو يشير إلى رحلته وتتفتق له هذه الرحلة عن ابن جبير الرحالة المشهور كأديب بارع وشاعر لسن، بقى في المدينة ومكة ستة أشهر دون فيها فوائد وغرائب وعجائب، فهو رحالة وصّاف من الطراز الأول فهو يعير مقاييسه للحرم بالشبر دقة وبراعة ويتجلى هذا في أثناء رسمه لصورة زمزم والحجر الاسود وغيرهما، كما يعرج على غرائب ابن جبير الأندلسي في وصفه المهيب لحركة الطيور حول الكعبة ولا تفوته أناقة ابن جبير في وصف بطيخ وسفرجل ورطب مكة.
ومن وقفات المؤلف عند شخصيات هذه الرحلات حسه الأدبي في وصف سمات ابن جبير الأسلوبية وخياله المجنح، ومما استوقفني من بليغ رسم المؤلف حديثه البديع عن الشاعر ابراهيم بن عبدالقادر المازني، ويلمح المؤلف إلى غرائب طباع بعض أعلام الكتاب، فالعقاد يلبس الصوف صيفاً وشتاءً منذ خمسة وعشرين عاماً، هذا وقد عمد الكتاب إلى إظهار صورة جلية واضحة عن الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - فهو يرصد مكانته في قلوب أعلام الكتاب فتارة هو حاضر في قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي (صدى الحجيج) وفيها تصوير للحالة الأمنية السيئة التي كانت عليها طرق الحج قبل عهد الملك عبدالعزيز الزاهر، ومن ذائع القصيد قول شوقي:
ضج الحجاز وضج البيت والحرم
واستصرخت ربها في مكة الأمم
قد مسها في حماك الضر فاقض لها
خليفة الله أنت السيد الحكم
الحج ركن من الإسلام نكبره
واليوم يوشك هذا الركن ينهدم
أرى صغائر في الإسلام فاشية
تودي بأيسرها الدولات والأمم
يجيش صدري ولا يجري به قلمي
ولو جرى لبكى واستضحك القلم
والموت أهون منها وهي دامية
إذا أساها لسان للعدى وفم
والقصيدة طويلة ومؤثرة.
ثم الملك عبدالعزيز آل سعود حاضر في رحلة العقاد وقد صدر له كتاب مع عاهل الجزيرة العربية يقول المؤلف: (في فترة من سنة 1946م أتيح له القدوم إلى هذه البلاد لمرافقة جلالة الملك عبدالعزيز - رحمه الله - في زيارة قام بها إلى مصر، وكانت تلك مناسبة لم يفت العقاد أن يغتنمها في زيارة هذه الرحاب الطاهرة والأماكن المقدسة فأكب في مقالات متتالية على وصف مشاهداته واحياء ذكريات تاريخية، أدبية حفلت بها الأرض المقدسة، ثم قصيدة العقاد بين يديّ الملك عبدالعزيز والتي قوبلت بالإعجاب والاستحسان - مطلعها:
عش يا طويل العمر عيش معمر
تحيا به أمم من الأحياء
ملك أناف على العقول بعزمه
وأتم ذلك بما يراه الرائي
جمع المهابة في العيون وفي النهى
وسما بمجد أبوة وإباء
يقول المؤلف حول علاقة الملك عبدالعزيز بعباس العقاد: (قد أثرت شخصية الملك عبدالعزيز في العقاد فصور جوانب منها تصويراً صادقاً في كتابه مع عاهل الجزيرة العربية).
وفي رحلة العلامة السيد غلام رسول مهر، إشارة إلى بلاغة خطاب الملك عبدالعزيز في أعيان الحجاج ومما جاء فيه: (تحدث عن دعوة الملك عبدالعزيز - رحمه الله - لأعيان الحجاج وإلقاء خطابه وشرح كلمة التوحيد وقضية اتحاد المسلمين ووصف الخطاب بأنه كان بليغاً ومؤثراً).
وفي رحلة السيد غلام رسول مهر يشير المؤلف إلى أهميتها الخاصة بقوله: (وتحمل هذه الرحلة أهمية لدارسي تاريخ الجزيرة العربية وبخاصة في عهد المغفور له الملك عبدالعزيز).
وفي رحلة ياباني في مكة أعجب الحاج محمد صالح (سوزوكي تاكيشي) بشخصية الملك عبدالعزيز بأنه (رجل لا يقهر) وبأن (السعد يواكبه حيث مشى وأن النصر حليفه على جميع أعدائه). يقول المؤلف: (رسم للملك عبدالعزيز صورة دقيقة الملامح جميلة القسمات، خطها بأصدق الكلمات، وأوضح العبارات دون رياء أو مجاملات... وغلبت المشاعر على الكاتب وهو يصافح الملك عبدالعزيز، فانهمرت الدموع من عينيه رغماً عنه، وتأثر الملك الانسان وشعر بما يموج بداخل هذا المسلم الياباني من عواطف صادقة، فأمسك بيده وأوقفه بجانبه وهو يصافح بقية وفود العالم الإسلامي).
ومن وقفات الكتاب البيانية الجميلة وصف الأمير شكيب أرسلان للملك عبدالعزيز حيث قال فيه: (شاهدت جلالة ملك هذه الديار وخادم الحرمين الشريفين عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود وكان في جدة ذلك اليوم فوجدت فيه الملك الأشم الأصيد الذي تلوح سيماء البطولة على وجهه، والعاهل الصنديد الأنجد الذي كأنما كان استقلال العرب الحقيقي على قده، فحمدت الله على أن عيني رأت فوق ما أذني سمعت، وتفاءلت خيراً في مستقبل هذه الأمة).
ومن جميل ما ذكره الأمير شكيب أرسلان تصويره الحي الذائع لخوف الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - على قوافل الحجيج فيقول: (كان الملك أيده الله من شدة أشفاقه على الحاج وعلى الرعية لا يرفع نظره دقيقة عن القوافل والسوابل ولا يفتأ سائق سيارته كلما ساقها بعجلة قائلاً له: تريد أن تذبح الناس، وكل هذا لشدة خوفه أن تمس سيارته شقدفاً أو تؤذي جملاً أو جمالاً، وهكذا شأن الراعي البر الرؤوف برعيته الذي وجدانه معمور بمعرفة واجباته).
وأما وقفة الكتاب الأخيرة فكانت في رحلة عبدالله فليبي حيث وصف فيها خطاب الملك عبدالعزيز وأسلوبه وآخر ما استوقفني من درر الكتاب الإشارة إلى رحلة المودودي والتي قام بكتابتها بدلاً عنه رفيقه عاصم حداد.
وإلى رحلات كتبها رجال غير مسلمين ووثقت في كتابين:
أولهما: (نصارى في مكة).
وثانيهما: (رحالة غربيون في بلادنا).
رحم الله المؤلف وأسبغ عليه شآبيب الرحمة والغفران.
مراجع المادة:
- أدب (رحلات الحج) إرث ثقافي وتاريخي، تقرير: عبدالله بن حمد الحقيل، جريدة الرياض 7 من ذي الحجة عام 1438هـ.
- رحلات الحج في كتب العلماء والأدباء والمستشرقين، أحمد بن عبدالمحسن العساف، مجلة البيان عدد (280).
** **
قراءة: حنان بنت عبدالعزيز آل سيف - بنت الأعشى -
عنوان التواصل: Hanan.alsaif@hotmail.com