د.عبدالله بن موسى الطاير
فقط أن تتخيل المشهد (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)، وأن تحشد طاقات ذهنك، لتتصور من لبى الأذان مجيباً وإلى مكة غذ المسير ملبياً؛ في الماضي والحاضر، ومن هو فاعل ذلك في المستقبل، وإذا تخيلت المشهد، فأكمل التصور بوضع مكة المكرمة، والمملكة العربية السعودية هي مركز هذا الحراك والتحشيد.
كسعوديين، ربما لا نتوقف عند أبعد من المشهد العام، ولكن غيرنا من المسلمين لهم مع الحج قصص مختلفة، وأتذكر المسلمين في الغربة كيف يسجلون قوائم بالأشخاص والدعاء المطلوب في مكة والمشاعر ويسلمونها للحجاج، فيسافر الحاج والمعتمر ومعه قائمة طويلة بأسماء الأصدقاء والأقارب الذين سيدعو لهم وهو يطوف ويسعى، وهو في منى، أو عرفات.
أدرك الحج أقوام يذهبون ولا يعود نصفهم من رحلة الحج، ففي الطريق إلى الحج تنهشهم الوحوش، ويفتك بهم الجوع والعطش، وقطاع الطرق، وفي مكة المكرمة يفترسهم المرض والعوز، حيث ضيق ذات اليد، وانعدام الخدمات، وغياب التنظيم، وحضور التنازعات السياسية والسلطوية التي تحترب في المكان مهددة أرواح الأبرياء، ومنتهكة حرمة الحرم، فكانت تلك الممارسات غير المسؤولة عناوين الخوف والوجل مما جعل كثير من العلماء يفتي ببطلان الحج عام 317هـ حماية للأنفس والأعراض. وكانت احدى المشاهد المأساوية، التي خلدها التاريخ هي ذلك اليوم من عام 317هـ، عندما اجتاح أبو طاهر القرمطي الحرم المكي، فهرع الحجاج للتشبث بأستار الكعبة طلبا للأمن فلم يحصلوا عليه، إذ عاث فيهم جنود القرامطة تقتيلا، في تحد لرب العالمين، وهم يرددون على مسامع ضيوف الرحمن: «يا حمير! أليس قلتُم في هذا البيت مَن دخله كان آمنا؟ أين حُرمته الآن؟»، فقتل في الحرم وفي أنحاء مكة المكرمة نحو ثلاثين ألفاً من المسلمين، وأقام القرمطي بالحرم ستة أيام اقتلع فيها الحجر الأسود، وردم زمزم بالقتلى، وصعد عتبة الكعبة، منشداً:
أنا بالله وبالله أنا يخلق الخلق وأفنيهم أنا
يقول ابن الجوزي في تعليقه على الآية الكريمة (ومن دخله كان آمنا)؛ أي من دخل المسجد الحرام فعلى القائمين على هذا البيت تأمين الزوّار والحجّاج والمعتمرين والعمل على راحتهم وعدم التعرض لهم»، وليت ابن الجوزي أدرك زماننا هذا ليشهد على دولة أمّنت البيت الحرم، ومن دخل الحرم، وامتد تأمينها للحاج والمعتمر ليشمل حدود المملكة العربية السعودية كلها، فمنذ أن يدخل الحاج من أي منفذ من منافذ المملكة البرية على بعد آلاف الكيلو مترات من مكة المكرمة وهو ينعم بالأمن والرعاية والخدمة.
لا أخجل ولا أتردد في الجزم بأن ما تحقق للحرمين الشريفين، وللحجاج والمعتمرين والزوار من رعاية وخدمة وتأمين لم يتحقق عبر التاريخ؛ فعلى مدى مئة عام تقريبا منذ بلاغ مكة المكرمة الذي أقره الملك عبدالعزيز في 12 جمادى الأولى سنة 1343هـ، وحرم الله آمن. ليس الأمن فحسب وإنما تتضافر جهود التوسعة والتيسير على الحاج والمعتمر والزائر باطراد، وكل عام مختلف للأفضل عن سابقه.
ونحن على بعد ساعات من يوم عرفة، وبعد تلك الفجوة الروحية التي نخرتها كورونا في نفوسنا بمشاهدة مكة والمشاعر خالية في موسم الحج، يعود الحج تدريجيا إلى سابق عهده تحت رعاية الدولة السعودية المباركة، وتتصل الجهود لخدمة الحجاج، وتواصل المملكة هذا العام مبادرة طريق مكة حيث تنهى إجراءات الحجاج في مطارات بلدانهم، فيدخلون المملكة وكأنهم قادمون من مطارات محلية، ويضاف إلى هذه الميزة «ترميز وفرز الأمتعة وفق ترتيبات النقل والسكن... وعند وصولهم ينتقلون مباشرة إلى مقار إقامتهم في مكة المكرمة والمدينة المنورة، بمسارات مخصصة، في حين تتولى الجهات الخدمية إيصال أمتعتهم إلى مساكنهم».
إنه شغف سعودي بخدمة ضيوف الرحمن، تجلت إحدى مظاهره باختيار ملك المملكة العربية السعودية لقبه خادم الحرمين الشريفين، وتواصلت في رعاية الحاج منذ قبل دخوله المملكة، وهي رحلة من الإصرار على أن تكون تجربة الحاج قصة تستحق الرواية. لنا في الحج أحبة، حجاجا وقائمين على خدمتهم، فاللهم احفظ الحجاج، وتقبل منهم، ووفق القائمين على خدمتهم، وكل عام وأنتم بخير.