مشعل الحارثي
بعد أن عرف قيمتها التاريخية ومكانتها الحضارية وطبيعتها الجغرافية والمناخية لم يخطئ جلالة الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود غفر الله له عندما اختار الطائف لتكون عاصمة صيفية له ولحكومته فسكنت قلبه واستأثرت باهتمامه كما سكنت قلوب كل من وطئت قدماه روابيها واستنشق طيب ورودها ونسيم شوامخها الباردة اللطيفة.
ومن جملة من أغرموا بحب الطائف معالي الدكتور غازي القصيبي رحمه الله الذي أبان في كتابه سيرة شعرية ما للطائف في نفسه من مكانة أثيرة فقال: (أما الطائف فقد قضيت فيها مواسم صيف رائعة أجمل ذكرياتي هناك هي ذكرياتي في فندق العزيزية التاريخي وصاحبه التاريخي العم عبدالقادر إدريس رحمه الله، هذا رجل غريب يتقاضى منك يومياً مائة ريال أو نحوها أجرة الغرفة، ثم يقدم لك يومياً من أنواع الهدايا ما تتجاوز قيمته هذا المبلغ بكثير، ويتحفك بذكرياته الشائقة التي لا تنتهي، كنت أذهب في كل يوم بجولات بالسيارة إلى الجبال المجاورة للطائف وكانت هذه النزهة فرصة لتأملات عميقة (وغريبة) لا أدري حتى هذه اللحظة لماذا يتيح جو الطائف مجالاً للتأمل على نحو لم أعهده في أي مكان آخر منذ سنين، لم أزر الطائف وكل ما أتمناه ألا تكون قد فقدت ورودها وجوها الهادئ الذي يوحي بأغرب الأفكار.
وفي معرض تشجيعه للشباب على ارتياد الأعمال الحرة ودورها في تنمية البلاد ودعم حركة الاقتصاد يأتي على ذكر العوائل التجارية التي نجحت في بعض المشاريع المتوسطة والصغيرة فيستشهد القصيبي بذكر تجربة (فندق العزيزية) بالطائف وصاحبه ويقول: (أذكر العم إدريس وفندقه العتيق (العزيزية) في الطائف حيث تحول الفندق إلى جزء من شخصية المالك يعكس روحه وكرمه ومرحه ولم يكن بإدارة الفندق سوى المالك وأبنائه، رحم الله العم العزيز وسقى الغيث تلك الأيام الغابرة).
وزيارات القصيبي للطائف لم تنقطع في حياته فقد سعد أدباء الطائف وعشاق الحرف والكلمة بلقائه في محاضرتين بنادي الطائف الأدبي الثقافي شهدت حضوراً كثيفاً لم يعتده النادي وكانت المحاضرة الأولى بعنوان (هل للشعر مكان في القرن العشرين) وألقيت بتاريخ 27 شعبان 1396هـ، وأما المحاضرة الثانية فكانت مساء الأربعاء 25 شعبان 1397هـ بعنوان (خواطر في التنمية)، كما كان مرافقاً لصديقه الشاعر البحريني عبدالرحمن رفيع في الأمسية الشعرية التي أقيمت للأخير بالطائف بتاريخ 1402هـ، وكان القصيبي أثناء تواجده بالطائف وفي مهام عمله الرسمية في الوزارات التي كلف بها يقوم بزيارات خاطفة للنادي الأدبي بالطائف ويلتقي بأعضائه وتدور بينه وبينهم العديد من الحوارات والنقاشات الأدبية والعامة.
أما الشيخ عبدالله عثمان القصبي رجل الصحافة والأعمال والمقاولات والأمين الأسبق لمدينة جدة رحمه الله ووالد معالي الدكتور ماجد القصبي وزير التجارة ووزير الإعلام المكلف فيقول في كتابه (رحلة قلم) عن ذكرياته بهذا الفندق العتيق: (إنه في بهو فندق العزيزية في ليلة من ليالي الطائف الحالمة كان على موعد مع نقلة نوعية في مسيرة حياته وعالم لم يكن في ذهنه عندما زار الطائف برفقة والده في أوائل صفر 1373هـ حيث الحكومة ووزراؤها ورجالها تقضي صيفها في معية الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن.
في رواق الفندق الصغير صباحاً وفي حديقته مساءً كان سكان الفندق وزوارهم يأتلفون حلقات يتجاذبون فيها أطراف الحديث، وكان الأمير طلال بن عبدالعزيز صاحب إحدى هذه الحلقات وفي ذات مساء صادفت الأخ عبدالله الطريقي والأخ عبدالعزيز الماجد وخضنا كما يخوض غيرنا أحاديث الذكريات والإصلاح والتطلعات والأماني، ثم انتقلنا إلى حلقة الأمير طلال وأدار الأمير الحديث ألواناً وسألني عن تحصيلي العلمي وانتهت الأمسية بتكليفي بالعمل مع سموه ولفنا الحماس فلم نحدد مرتبة ولا درجة ولا راتباً.
وفندق العزيزية مدار حديثنا هو من أوائل فنادق الطائف وتم إنشاؤه عام 1373هـ وكان ملتقى لعلية القوم والأمراء ورجال الحكومة عند قدومهم للاصطياف، وفي إحدى غرفه أصدر الأديب الراحل أحمد عبدالغفور عطار عام 1379هـ أول أعداد جريدة (عكاظ)، وقد تمت إزالة الفندق عام 1433هـ لتوسعة شارع الملك فيصل ليبقى عبق التاريخ بعد اندثار معالمه الشاهد الحي على ما يحمله من ذكريات جميلة على مدى ستين عاماً مضت، فرحم الله الملك عبدالعزيز وملوك مملكتنا الراحلين حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين حفظهما الله على كل ما بذلوه لمدينة الطائف من جل اهتمامهم ورعايتهم وتنميتها وتطويرها لتساير بقية المدن الأخرى، ورحم الله غازي القصيبي وعبدالله القصبي اللذين لم يغب عن ذاكرتيهما توثيق هذا الأثر التاريخي من آثار الطائف.