عبد الرحمن بن محمد السدحان
* عانيتُ في فجر طفولتي، وكنت يومئذ دون العاشرة، من (إيلام) تمثّل في وجود (جارية) من أصول أفريقية، كانت تعمل في منزلنا بمكة المكرمة، كانت متوسطة العمر، بشعة الوجه واللسان، ولسبب أجهله حتى الآن.. كانت تقسُو عليّ في التعامل قسوةً لا مبرّر لها ولا باعث، تارةً باللعن لأتفه سبب، وأخرى بالنّهر الحاد!
* * *
* لم أكنْ في طبعي (شقيّاً) كأندادي من أطفال العاشرة، وكان خوفي من أبي -رحمه الله - واحترامي الشديد له في آن سببيْن في لجْم لساني عن الحديث معه عمّا كنت أعانيه من قسوة تلك الجارية، فقد كان (إحساسي الطفولي) المرهَف يوحي إليّ بأنّ والدي (مشغول) عني بما هو أهمّ. ولذا لم يكن من الوفاء ولا الولاء له أن أرهقه بنفسي وهمومي!
* * *
* همست لنفسي يومئذٍ بأنني أعيش في (يسْر) مادي برعاية أبي، حاضراً أو غائباً، وأنعمُ بشيء من الاستقرار المادي والمعنوي في آن، ولذا فإن من الوفاء له أن أتعايش مع الوضع الراهن في البيت صبراً واحتساباً!
* * *
* لا أدري حتى الآن ما الذي كان يثير تلك الجارية الأفريقية ضدي، أهو (لساني) العسيري وقتئذٍ، هل كان يثير في نفسها نفوراً من صاحبه! ثم إني كنت أخشى بأسها على نحو يلجم لساني عن التعاطي مع قسوتها حدةً في القول، بمثل ما كانت تعاملني به! كان هذا الموقف سببَ لجوئي للانفراد بنفسي حين يكون والدي خارج المنزل.
* * *
* كنت أعزّي نفسي بالقول إنها جاءت إلى المنزل بالمال، وبالمال تذهب، وقد يكون في وجدانها (أجندة حزن) لا تفارقها ليلاً أو نهاراً، حين تستعيد في خاطرها (مراسم) الغربة بعيداً عن وطنها الأم، وبالتالي، وجَدَتْ في (شخصي) (كبشَ فداء) لوسَاوسِها وأحزانها!
* * *
* وتمضي الأيام سِراعاً، وتزداد وتيرةُ تكيّفي مع مناخ المنزل رغم مسبّبات الضيم النفسي لي، ظاهره وباطنه! كنت أخفي ما بي كي لا أؤذي أبي، أو استفزُّ هيبته المهيمنة على خاطري، حاضراً أو غائباً، ولم يكن -رحمه الله - يسألني عمّا بي، ربما كان (ينسبُه) إلى حنيني لأمي، ثم، ماذا في وسعه أن يفعل من أجلي أكثر مما فعل، وأنا الذي اقتحمت فضاء حياته اقتحاماً بلا علم منه ولا إذن، وهو الذي اضطرّ أن يعدّل بسببي نسق حياته، وهو لذلك كاره، لا عزوفاً عن وجودي معه، من حيث المبدأ، فأنا أولاً وآخراً، ابنه، ولكن لأن ظهوري (الفجائي) في حياته جعله يعيد النظر فيما كان ربما يخطط له، سعْياً للاستقرار النفسي والعائلي.
* * *
* وبعد.. فقد كانت تلك الفترة المؤلمة في سيرتي نقطة (تحوّل) تمت في حياتي، لأنها أيقظت في نفسي الإلهام (بعدم) الإساءة بألَامي وجدانَ أبي، فكفاه ما شاهده وعاصَره في صدر شبابه من معاناة (عدم الاستقرار) في مكان واحد، متنقلاً بين شقراء فمكة فأبها ثم جازان ثم جدة، قبل أن يلقي عصا الترحال في الرياض، غفر الله له، وأنزله فسيح جناته.