هيئة التحرير بالثقافية
انتقل إلى رحمة الله تعالى الشيخ محمد بن ناصر العبودي، يوم أمس الأول الجمعة، وتمت الصلاة عليه بجامع البابطين، بعد أن ناهز عمره القرن، وكانت حياته -رحمه الله- حافلة بالعلم والمعرفة ألف فيها عشرات الكتب، واستطاع أن يثري الحركة المعرفية والفكرية في المملكة وخارجها بجهوده في مجالات الدعوة والأدب والثقافة، فهو من أبرز الرحالين، ولد في مدينة بريدة عام 1345هـ، وتلقى تعليمه الأولي فيها على يد عدد من العلماء، ثم عمل مدرسًا، ثم مديرًا للمعهد العلمي في بريدة، ثم أصبح الأمين العام للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة لثلاثة عشر عامًا، وفي وقت لاحق أصبح وكيلاً للجامعة نفسها ثم مديرًا لها، ثم شغل منصب الأمين العام المساعد لرابطة العالم الإسلامي وقد أتاح له عمله في الرابطة وقبلها في الجامعة الإسلامية بالمدينة كأمين عام لها زيارة معظم أصقاع العالم، فكان لمشاهداته العديدة واطلاعاته أن تثمر أكثر من مائة وستين كتاباً في أدب الرحلات ويكون بهذا قد حقق رقمًا قياسيًا في كتب الرحلات العربية.
وكانت حياة العبودي العلمية زاخرة بالعطاء فألحقه والده في حلقات العلم وقرأ وهو صغير على يد الشخ صالح الكريديس ليتعلم القراءة والكتابة على يد الشيخ محمد الوهيبي والتحق فيما بعد بقاضي القصيم الشيخ عمر بن سليم، كما طلب العلم على يد الشيخ صالح الخريصي وصالح السكيتي.
وفي عام 1362 هـ توفي الشيخ عمر بن سليم فاختار الملك عبدالعزيز الشيخ عبدالله بن حميد مكانه في التدريس والتعليم الذي وجد في هذا الفتى الصغير نبوغًا وبروزًا يجدر العناية به.
سأله الأب ناصر العبودي قائلاً: ما رأيك في محمد في القراءة؟
فأجاب الشيخ صالح: «والله محمد يفيدنا».
وقد سبق أن علق الشيخ محمد العبودي رحمه الله على ذلك الموقف قائلاً: بطبيعة الحال أنا لا أفيده، ولكنني كنت أقرأ عليه من كتاب؛ فهو إنما يعبر عن تواضعه بأنني إذا قرأت استفاد ممَّا أقرؤه.
وقال غفر الله له: جعلني الشيخ ابن حميد أمينا على المكتبة وكنت اهيئ الكتب والمراجع للطلاب لافتا إلى أن أول مكأفاة تقاضاها بلغت (40) ريالا.
وفي عام 1363 هـ عمل معلما في مدرسة الفيصلية النظامية ببريدة وبعد خمس سنوات انتقل إلى مدرسة المنصورية بعد افتتاحها وعمل مديرا لها إلى أن تم اختياره عام 1373هـ مديرا للمعهد العلمي في بريدة بعد افتتاحه، انتقل بعد ذلك إلى العمل في الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة إلى ان صدر قرار بتعيينه أميناً عاماً مساعداً لرابطة العالم الإسلامي، وبقي ممارساً للعمل حتى تقاعده قبل نحو أربع سنوات كانت أولى رحلاته الخارجية إلى إفريقيا أمضى فيها نحو ثلاثة أشهر تفقد فيها أحوال المسلمين ومشاهداته، ويشير الشيخ العبودي رحمه الله في هذا الصدد أنه يحمل مذكرة صغيرة خلال جولاته يرصد فيها أسماء المدن والشخصيات ورؤساء الجمعيات وأبرز المشاهدات.
ودعا الشيخ العبودي بعد جولاته الدعوية لأكثر من 3000 مدينة أكثر من160 دولة إلى أن المسلمين بحاجة إلى فقه الأقليات القطبية، لمعرفة أحكام الإسلام خاصة في بعض المناطق التي لا تغيب فيها الشمس.
ولدى العبودي رصيد وافر من الكتب والمؤلفات بعضها تحت الطبع ومن ابرزها الأمثال العامية في نجد والمعجم الجغرافي لبلاد القصيم ومعجم أسر بريدة ومعجم الاصول الفصيحة للألفاظ الدارجة فيما صدر له أول كتاب عام 1384 هـ بعنوان في إفريقيا الخضراء الذي ترجم إلى عدة لغات.
ونال العبودي وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى وكرم في مهرجان الجنادرية عام هـ بصفته الشخصية الثقافية إلى جانب تكريمه من عدة جمعيات ومؤسسات ثقافية وأدبية باعتباره من رواد التاريخ المحلي.
وقد كتب عن العبودي كتابات ثرية، ومن أبرز الكتابات عنه ما سبق أن دونه أ.د.إبراهيم الشمسان معلقا على لقاء للعبودي عقب في قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود، يقول: «بدأ العلامة العبودي بذكر اسمه ومكان نشأته وتعلمه الأولي وأطاف بجانب من أعماله الإدارية ثم انتقل إلى حديث الذكريات عن رحلاته الكثيرة التي كتب عنها عددًا هائلاً من الكـتب لا ينافسه في عددها أحد من الكتاب، هذا إلى ما أنجزه من معجمات قيمة لا غنى للباحثين اللغويين والمؤرخين والجغرافيين عنها؛ لأنها كتابة دراية ورواية لشاهد من شواهد العصر؛ فثم كتب رحلاته الكثيرة وكتاب الأمثال في نجد، والمعجم الجغرافي عن منطقة القصيم، ومجموعة معاجم عن الأسر في القصيم، ومعجم الأصول الفصيحة للكلمات الدارجة، وأما كتاب (كلمات قضت) فهو الكتاب الذي جعلته عمدتي وأنا أكتب معجم أسماء الناس في المملكة العربية السعودية.
تسمع الشيخ يتحدث بطلاقة وهدوء كأنه يقرأ لك من كتاب فلا يخرم اسمًا ولا يتلجلج في عبارة ولا تعرض له حبسة والأسماء على قدمها حاضرة والتواريخ كأنها مبسوطة أمامه لا يتمهل لتذكرها حتى كان هذا الأمر من دواعي دهشة من لا يعرف الشيخ وما تعود استماع برنامجه الإذاعي الممتع عن الرحلات، كان هذا من دواعي تعليق طريف لإحدى الزميلات حين قالت إنك أيها العلامة آية من آيات الله وإنك رزقت نعمة حفظها الله عليك ولا يكون هذا عادة إلا لفعل حسن يعتاده المرء ثمّ سألت فما ذلك العمل؟ وكان من جوابه حين أجاب أنْ لعل ذلك من محبة الخير للناس.
وأما أنا فحين أذن لي بالحديث بينت أن أعماله الجليلة المطبوعة على ورق ليست متاحة لكل أحد إما لنفاد المطبوع أو لغلاء ثمنها لتعدد مجلدات كل عمل أو لأن الجهة الناشرة لها لا توزعها بالكيفية الملائمة، وكان همي دعوته أن يعمل أو يأذن بأن يعمل على تصويرها وترفع على العنكبوتية لتكون بين أيدي الناس في كل مكان، وهو بهذا سيناله من الدعاء أضعاف ما يناله من حصلوا المطبوعات. وقد أجاب الدكتور المشوح عن هذا بأن بعض المواقع قد صورت أعماله، وهو يقصد بذلك كتب الرحلات وهو أمر حسن؛ ولكن الذي أرى الدارسين والمهتمين بتراث بلادنا بحاجة إليه لَمّا يصور، فلعل من نشروها يقدمون على نشرها؛ لما في ذلك من خير عميم، ونحمد الله أن رزقت بلادنا بمثله».
رحم الله الشيخ محمد بن ناصر العبودي وأسكنه فسيح جناته.