د. تنيضب الفايدي
توجد عدة مساجد بالمدينة المنورة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عدا المسجد النبوي، إما بناها رسول الله مثل مسجد قباء، أو مساجد قائمة قبل هجرته، مثل مسجد القبلتين وبعض المساجد الأخرى، أو مساجد اختطها لقبيلة من القبائل التي تحيط بالمسجد النبوي أو يكون المسجد في منازل أحد الصحابة، من تلك المساجد التي لها ارتباط بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة مسجد (المصلى).
تسمية المسجد
المصلّى، وسمي بالمصلى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى العيد في موقع المصلّى، ولوروده في حديث النبي فقد جاء أن الرسول خرج إلى المصلى وقال: «هذا مستمطرنا ومصلانا لفطرنا وأضحانا، فلا يضيق ولا ينقص علينا». رواه ابن شبة في تاريخ المدينة
أما تسمية الغمامة والذي اشتهر به حالياً، حيث يُقال إن غمامة (سحابة) حجبت الشمس عن الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء صلاة الاستسقاء فسُمي بالغمامة. وهذه التسمية لا أساس لها من الصحة، بل هي مجرد افتراء؛ لأنه لم يرد حولها أي حديث أو أثر صحيح، مع ذلك شاع بين الناس، وقد تتابع المؤرِّخون في ذكر (المصلى) ولم يذكر أي اسم آخر له وبعضهم ذكر مسجد المصلّى. واسم الغمامة على هذا المسجد جاء متأخراً في العصر الحالي، ولا علاقة للغمامة بالمسجد من قريب أو بعيد، فضرورة تسميته باسم المصلى وأن لا يضاف إليه غير هذا المسمى نهائياً.
موقع المسجد
يقع مسجد المصلى في الجهة الجنوبية من المسجد النبوي الشريف، قال ابن حجر: «المصلى موضع بالمدينة على بعد ألف ذراع من باب السلام. وكان يعرف بالمناخة وسوق المدينة المنورة؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم اختار هذا الموقع سوقاً للمسلمين، حيث جلّ الصحابة المهاجرين كانوا تجاراً فطلبوا من النبي أن يحدد لهم سوقاً، فقد روى ابن شبة عن عطاء بن ياسر قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل للمدينة سوقاً أتى سوق بني قينقاع، ثم جاء سوق المدينة، فضربه برجله ثم قال: «هذا سوقكم فلا يضيق ولا يؤخذ فيه خراج».
وقال السمهودي في كتابه (وفاء الوفا): روى ابن شبة عن صالح بن كيسان قال: «ضرب رسول الله عليه الصلاة والسلام قبة في موضع بقيع الزبير فقال: هذا سوقكم، فأقبل كعب بن الأشرف فدخلها وقطع أطنابها، فقال رسول الله: «لا جرم لأنقلنها إلى موضع هو أغيظ له من هذا»؛ فنقلها إلى موضع سوق المدينة ثم قال: «هذا سوقكم لا تتحجروا ولا يضرب عليه الخراج».
وعن أبي أسيد أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد رأيت موضعاً للسوق أفلا تنظر إليه؟ فجاء به إلى موضع سوق المدينة، قال: فضرب النبي برجله، وقال: «هذا سوقكم فلا ينقص منه ولا يضربن عليه خراج». وروى ابن ماجة
ويبدأ هذا السوق من شمال مسجد المصلى ويمتد إلى القرب من ثنيات الوداع شمال المدينة المنورة قديماً، أي: يحدّ سوق المدينة من الجنوب مسجد المصلى ويمتد حتى شرق جبل سُلَيْع (باب الكومة)، وقد اشتهرت المناخة كذلك بأن جزءاً منها وهو الجزء الشمالي الأقرب إلى ثنية الوداع كان مركزاً لمسابقة الخيول، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يحضر أحياناً، وقد بني في موقع السباق مسجد يُسمى مسجد السبق (قد أزيل حديثاً)، فعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء (في الشمال الغربي لجبل أحد)، وكان أمدها (نهاية السباق) ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق (أي: مسجد السبق) وأن عبد الله بن عمر كان ممن سابق بها. رواه البخاري، وقد اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم سوق المناخة للمسلمين ما بين مسجد السبق (الذي سُمي لاحقاً بمسجد السبق) ومسجد المصلى، وبقي هذا السوق صامداً - كموقع- ويعرف أهل المدينة حدود ذلك السوق حتى وقت قريب، حيث تبتدئ حدوده الأصلية لهذا السوق من مسجد المصلى إلى قلعة الباب الشامي (والقلعة كانت على جبل سليع باب الكومة وقد أزيلت)، ولم تذكر المصادر حدود معينة للسوق أو مساحة محددة بالضبط، كما أنه لا توجد مبان بهذا السوق وإنما هو فضاء يحضر التجار إليها صباحاً، ومن سبق إلى موقع وضع بضاعته فيه ويتاجر إلى نهاية اليوم، حيث يحمل متاعه ليعود في اليوم الثاني، كما لا توجد له أبعاد من حيث الطول أو العرض في أول إنشائه غير أنه محدود عند إنشائه بمواقع، فقد ورد عن عبد الله بن محمد قال: «كان الراكب ينزل سوق المدينة فيضع رحله، ثم يطوف بالسوق ورحله بعينه يبصره لا يغيبه عنه شيء». ويظهر من هذا أن مساحة السوق كانت متوسطة بحيث يرى الزائر ركبه.
وقد ذهب أحد الباحث في كتابه (المدينة المنورة عاصمة الإسلام الأولى) إلى تحديد سوق المدينة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: «يحده شمالاً ثنية الوداع الشامية وقد بنت عليها الحكومة مسجداً يعرف بمسجد الثنية، ويحده جنوباً مصلى العيد المعروف الآن بمسجد الغمامة الذي بناه العثمانيون، ويحده شرقاً مشهد مالك بن سنان رضي الله عنه، وقد أدخل في الحرم وعلى بعد خمسين متراً تقريباً إلى الشرق من سور الحرم الغربي الجديد، وقد سميت سوق المناخة بأسماء متعددة منها سوق المصلى.
تاريخ المسجد
لم يكن هذا المكان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مسجداً، بل كان فضاء وإنما أنشئ المسجد في عهد عمر بن عبد العزيز ما بين (87-93هـ). يقول السمهودي: «لم يكن المصلى في زمن النبي مسجداً، بل كانت صحراء لا بناء فيها، والمسجد المتخذ بها اليوم إنما هي في بعضها وهو المحل الذي قام به النبي عليه الصلاة والسلام وكذلك المسجدان الآخران (مسجد أبي بكر الصديق ومسجد علي رضي الله عنهما) والظاهر أن بناء الثلاثة كان في زمن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
ثم جدَّده السلطان حسن بن محمد بن قلاون الصالحي قبل عام 761هـ، ثم أجريت له إصلاحات في عهد السلطان إينال عام 861هـ، قام بعدها السلطان عبد المجيد الأول بتجديده تجديداً كاملاً، ظلّ إلى عصرنا الحالي عدا بعض الإصلاحات في عهد السلطان عبد الحميد. وفي العهد السعودي بدأ العمل على ترميمه كاملاً في سنة 1431هـ ضمن مشروع تطوير منطقة المناخة، واكتملت عملية الترميم في سنة 1434هـ إلى جانب مسجدين آخرين في المدينة المنورة هي مسجد أبي بكر الصديق، ومسجد عمر بن الخطاب (برنامج العناية بالمساجد التاريخية).
الصلاة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعه:
صلاتا العيد والاستسقاء
في موضعه كان عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم يصلى صلاتي العيد والاستسقاء. ولهذا عُرف بمسجد المصلى فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف. متفق عليه. قال الواقدي: أول عيد صلاه رسول الله سنة اثنتين من مقدمة المدينة من مكة، وحملت له العنزة وهو يومئذ يصلي إليها في الفضاء. وكانت العنزة للزبير بن العوام أعطاه إياها النجاشي، فوهبها للنبي صلى الله عليه وسلم فكان يخرج بها بين يدي الأئمة في زمانهم. رواه ابن ماجة. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن النبي كان يذبح أضحيته بيده إذا انصرف من المصلى على ناحية الطريق التي كان ينصرف منها».
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى ليستسقي فبدأ بالخطبة، ثم صلى وكبر واحدة افتتح بها الصلاة، فقال: (هذا مجمعنا ومستمطرنا ومدعانا لعيدنا ولفطرنا وأضحانا، فلا يبنى فيه لبنة على لبنة ولا خيمة). وعن عباد بن تميم عن عمه قال خرج صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فاستسقى واستقبل القبلة وقلب رداءه وصلى ركعتين. وعنه رضي الله عنه قال: «كان النبي إذا قدم من سفر فمر بالمصلى، استقبل القبلة ووقف يدعو وعن عباد بن تميم عن عمه قال خرج صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فاستسقى واستقبل القبلة وقلب رداءه وصلى ركعتين. رواه ابن ماجة. وروي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين مسجدي إلى المصلى روضة من رياض الجنة» رواه البخاري في التاريخ الكبير، حيث وسع في الروضة إلى المصلى بعد أن كان بين بيت الرسول والمنبر فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ: ما بيْنَ بَيْتي ومِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِن رِيَاضِ الجَنَّةِ، ومِنْبَرِي علَى حَوْضِي. رواه البخاري.
صلاة الجنازة الغائب
كما صلى رسول الله في هذا المكان صلاة الجنازة الغائب على النجاشي، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه فخرج بهم إلى المصلى وكبر أربع تكبيرات. متفق عليه.
المصلى والأدب
اشتاق الشعراء المصلّى وما حوله كثيراً وذكروا في الشعر، يقول الشاعر إبراهيمُ بن موسى:
ليتَ شِعري هل العقيقُ فسَلْعٌ
فقصورُ الجَمَّاءِ فالعَرْصَتَانِ
فإلى مسجد الرسولِ فما جَا
زَ المُصَلَّى فجانبي بُطْحَانِ
قال الشاعر:
رعى الله الأبيرقَ والمصلّى
وبانَ الحيّ ما سجعت حمامهْ
فتلك مواطن الصبّ المعَنَّى
بها الأرواح صارت مُستهامه
على عربٍ بها منّي سلامٌ
يكون المسك من قبلي ختامه
وتلطف الذهبي، حيث يقول:
تولّى شبابي كأن لم يكن
وأقبل شيب علينا تولّى
ومن عاينَ المنحنى والنَّقا
فما بعد هذين إلا المصلى
وقال آخر:
طرِبْتُ إلى الحُورِ كالرَّبْرَبِ
تراعينَ في البلدِ المُخْصِبِ
عمَرْنَ المُصلَّى ودورَ البلا
ط وتلك المساكنَ من يِثرِبِ
وقال الشاعر:
ألا يا سارياً في قفرِ عمر
تُكابدُ في السُّرى وعْراً وسَهْلا
بلغْتَ نَقا المشيبِ وجُزْتَ عنْهُ
وما بعدَ النَّقا إلا المصلّى
والشاعر الآخر يسأل عن جنوب المصلى، أ هو باقٍ كما تركه أم حدث عليه التغيير؟
ألا ليت شعري هل تغير بعدنا
جنوب المصلى أم كعهدي القرائن
وهل أدؤر حول البلاط عوامر
من الحي أم هل بالمدينة ساكن
إذا برقت نحو الحجاز سحابة
دعا الشوق مني برقها المتيامن
نعم، لقد تغير كلّ شيء بعدك أيها الشاعر، حيث إن جنوب المصلّى هو المنحنى، والمنحنى والنقا وحاجر إضافة إلى المصلى تلهب مشاعر المحبين، فصاغوها شعراً وأدباً شوقاً إلى المدينة وما في المدينة من مآثر ومساجد ومنها مسجد المصلى.
وقد جددت المسجد عدة مرات وآخرها في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود - رحمه الله -.