طلال أبو غزالة
لقد أصبحت الحروب الحديثة أكثر تعقيدًا مما مضى، مع ضخ المليارات لصناعة أحدث الأسلحة المتقدمة تكنولوجيًا لتمكين الجيوش من إخضاع أعدائهم. وتشمل الإستراتيجيات الجديدة التي جربتها الجيوش ونفذتها على مدى السنوات القليلة الماضية الحروب الاقتصادية، والإلكترونية، والمعلوماتية، والنفسية.
ما يجري حاليًا هو تطوير شكل جديد تمامًا من أشكال القتال باسم «الحرب المعرفية»، للسيطرة على الطريقة التي يتصرف بها البشر ويفكرون بها. قد يبدو الأمر مثل أفلام الخيال العلمي، ولكن حلف شمال الأطلسي (الناتو) شارك بنشاط مؤخرًا في تسليح العقول واختراق الأفراد بشكل جديد تمامًا من أشكال الحرب؛ للتحكم في طريقة تفكير الأشخاص وردود أفعالهم، بل إنهم يفكرون في توسيع نطاق حروبهم التقليدية، التي تشمل البر والجو والفضاء والبحر والإنترنت، لتشمل مجالًا عسكريًا سادسًا يحتمل أن يكون أكثر فتكًا، يحمل اسم «المجال البشري».
ويستثمر الناتو بقوة في البحث في هذا المجال، بحيث يكون الهدف من الحرب المعرفية هو تحويل كل شخص إلى سلاح محتمل، وتأسيس طابور خامس داخل الدول المستهدفة بطريقة لا تدركها. إذًا، فالعقل هو الآن ساحة المعركة الجديدة، ويحتمل أن تستهدف صراعات المستقبل العقول في البداية قبل الانخراط في القتال الجسدي.
يشير تقرير صادر برعاية الناتو في عام 2020 بشأن الحرب المعرفية، إلى أنه يجب بناء القدرات في هذا المجال، وأن على الجيوش العمل مع الأوساط الأكاديمية والقطاع الخاص لتسليح العلوم الاجتماعية لتطوير قدرات الحرب المعرفية المتطورة.
ويبدو أن مثل هذه الحرب قد اختبرت بالفعل على السكان رغمًا عنهم، فقد قالت جريدة «أوتاوا سيتيزن» في تقرير لها إن قيادة العمليات المشتركة الكندية استخدمت وباء الكوفيد لاختبار إستراتيجيات الحرب المعرفية وتكتيكاتها ضد شعبها. يضع هذا النمط من الحرب العقل في صدارة المعركة بهدف التأثير على الرأي، وزرع الصراع الفكري، وتدمير العقول، وزرع مفاهيم بعينها في العقول، ما من شأنه أن يساعد في تعطيل المجتمع قبل إطلاق رصاصة واحدة. ويستثمر حلف الناتو، ووكالة مشاريع البحوث المتطورة الدفاعية الأمريكية، والوكالات العسكرية الغربية الأخرى بقوة في هذا المجال؛ لتطوير هذا النوع الجديد من السلاح العسكري، الذي يهدف إلى إضعاف العقول.
سيكون لهذا تداعيات كبيرة، وذلك لأن الهجمات التي تُنفذ وفق هذا النوع الجديد من الحملات العسكرية ربما تحدث في أي وقت، وبدون أي تدخل من القوى العسكرية. فتوافر الإنترنت والهواتف الذكية في كل مكان، وتوافر البيانات الضخمة وتقنية الذكاء الاصطناعي على وسائل التواصل الاجتماعي، يعني أنه يمكن تخطيط هجمات متقدمة ضد عقول مواطني أي دولة وإطلاقها دون أي تحذير مسبق، ودون أن يعرف المستهدفون أنهم يجري اختراقهم حرفيًا، ليفكروا ويتصرفوا بطريقة معينة. كل هذا رهن بالحصول على المعلومات، التي نولدها الآن بكثرة كلما استخدمنا تطبيقات ومنصات الإنترنت، التي نتعامل معها يوميًا.
يمكن للجيوش الاستفادة من هذه المعلومات بسهولة لفهم جمهورها المستهدف بطريقة أفضل، وتطوير طرق جديدة للتأثير على أفكارهم وأفعالهم. فمن البديهي إنه إذا استطاع المرء تعطيل عقل عدوه، فسينتصر عليه في المعركة حتى قبل أن تبدأ. إنه سلاح قوي جدًا في أيدي أولئك الذين يستخدمونه.
ومثلما أصبحت الإعلانات الدعامة الأساسية لشركات التواصل الاجتماعي، وتدر لهم المليارات من عائدات التسويق، فإنني أرى نفس الشركات تعمل عن كثب مع الجيوش لتزويدها بهذه البيانات الضخمة، لتصبح أكثر قوة مما هي عليه بالفعل، وتربح هي التريليونات مع زيادة الميزانيات العسكرية كل عام. وستصبح ساحة المعركة الإنترنت، وستصبح هذه الحملات بلا بداية أو نهاية، ويمكن إطلاقها على مدار 24 ساعة دون توقف.
لا بد أن نشرع في بناء قدراتنا الذاتية في هذا المجال، لنتمكن من اكتشاف حصان طروادة، وحماية أنفسنا منه. وسواء رغبنا في ذلك أم لا، فإن هذه التقنية أصبحت موجودة بالفعل، وستجد سبيلها إلينا، وستؤثّر على أفكار دولنا والطرق التي نتصرف بها بلا وعي.
إنني أدعو حكوماتنا ووكالاتنا العسكرية إلى العمل بلا هوادة للبحث وتطوير القدرات في هذا المجال، لاسيما في تخصصات مثل تقنية النانو، والتقنية الحيوية، وتقنية المعلومات، وعلوم الأعصاب.
أما إذا لم نفعل شيئاً، فسنصبح كالحملان التي تساق إلى ذبحها، ولعبة في أيدي الغير. ويبدو أن الانتصار في المعارك المستقبلية سيعتمد على التفوق العسكري في الأسلحة المعرفية، وإلى أي مدى يمكن التلاعب بالعقول.