د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الرحالة والعالم الجغرافي الألماني السيد البرت ذكر راياً حول الجمل، توقفت عنده، لأنه في ظني يستحق الحديث عنه، فهو يرى أن البداوة في وضعها الحالي لم تكن موجودة قبل ثلاثة آلاف وخمسمائة عام، أي في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد، ذلك التاريخ الذي روض فيه الإنسان العربي الجمال، واستطاع أن يستخدمها في تنقلاته، لأن النقل يؤثر كثيراً في أساليب المعيشة في الحياة، ولكن مثل هذا الرأي يستحق النقاش والتبصر والتفكر، لأنه أيضا مبني على منطق معقول.
قبل أربعة آلاف عام أو أكثر كان الحمار هو الوسيلة المتاحة لدى الإنسان لتنقل، ويعتبر ترويضه نقلة أيضا في حياة الإنسان، وكان المفضل لدى الإنسان هي أنثى الحمار أفضل لديك من ذكر لأنها تتحمل السفر وأكثر طاعة من الحمار، وقد استخدمها العرب، والعبرانيون، والسريانيون، وغيرهم من شعوب الأرض، وفي قصة يوسف عليه السلام عندما ذهب اخوته إلى مصر، أو حتى القافلة التي مرت وهو في غياهب الجب، كانت وسيلة النقل لديهم الحمار، فنحن نعلم أن الحمير لا يمكنها السير في الفيافي الشاسعة، وقلة الماء والمرعى، فقد كان شعيب عليه السلام، ويوسف عليه السلام في ذلك الوقت قريبين جدا من الطرف الشرقي لمصر، ونهر النيل في ذلك الوقت كان لديه سبعة فروع، إن كان هذا بافتراض أن فلسطين ومصر وحولها هو الذي تمت فيه الاحداث، أو أن الموضوع برمته في موقع آخر، كما يقول الاستاذ صليبة، والاستاذ فاضل الربيعي، ولا نريد أن نخرج عما نحن نتحدث عنه.
تكاد تحمل جميع اللغات الاسم ذاته الجمل مع شيء من التصرف البسيط، مثلا كامل في الإنجليزية، وفي اللاتينية كميلو، وأن اطلق عليه اسم كمل، في عدد من اللغات القديمة والحديثة، فاسمه راسخ رسوخه في هذه الصحراء الشاسعة، من المعتقد ان ترويضه وتذليله كان في الضفة الغربية من الخليج العربي، ولهذا فقد سمى العراقيون القدماء الجمل، باسم حمار البحر، فهم يعرفون الحمار، ويستخدمونه للركوب، لكنهم لم يكونوا يعلمون أو يعرفون أن هناك حيواناً آخر يمكن الاستفادة منه في التنقل غير الحمار، ولهذا قرنوا بين الحمار والجمل، وموضوع البحر، أي الخليج العربي. أما الآشوريون فقد ذكروا اسم الجمل في نصب، تذكاري عندما فاز شمنوتصر الأشوري على حاكم دمشق ابن هدد الثاني، وأعوانه من القوى الموجودة في دويلات المدن التي كانت منتشرة في الشام، وفلسطين، حيث انطلق من نينوى الى الشام، ووقعت المعركة في مكان اسمه قرقر في الشمال الغربي من سوريا، انتصر فيها، وسجل انتصاره على نصب، والذي حفظ لنا تاريخاً صور فيه الجمل، فأبقى لنا دليلاً لإحدى الوسائل التي استخدمها العرب في تلك المعركة، وكان ذلك في القرن التاسع قبل الميلاد، أي قبل ثلاثة آلاف عام تقريباً في ذلك العصر الذي كان فيه الكنعانيون بفروعهم من العرب، والعبرانيين، والفينيقيون والآراميون، وغيرهم، يعيشون في الشام. نعود إلى صلب الموضوع الذي يتحدث عن النقل وهو المجتمع أن الجمل كان له تأثير كبير في تطور الناحية الاجتماعية في البلدان الصحراوية، لاسيما صحراء الجزيرة العربية، تلك الصحراء مترامية الأطراف، التي تفصل الوديان عن بعضها البعض فيافي خالية من العشب والماء والكلأ، ولا يمكن لأي حيوان مثل الحمار أن يسير مسافات طويلة في تلك البقاع لأيام عديدة فتكوينه لا يسمح له بذلك، لأنه يحتاج إلى المشرب والمأكل بصورة متواصلة، كما أنه أيضا يحتاج إلى الراحة بعد حين، إضافة إلى قدرته المحدودة على حمل كميات كبيرة من الأمتعة مقارنة بالجمل، ولهذا فإن المقارنة بين الجمل والحمار في التنقل في الصحراء غير وارد، ومن هنا انطلقت فكرة السيد البرت. يرى السيد البرت أن الإنسان العربي الساكن في الصحراء فيما قبل النصف الثاني من الالف الثاني قبل الميلاد، لم يكن قادراً على أن يعيش البداوة التي نعرفها في هذا الوقت، لان أداة التنقل لديه، كانت عاجزة عن مساعدته على الانطلاق في هذه الصحراء المقفرة، ولهذا فقد بي حبيس ما حوله من أعشاب، يأخذ أغنامه حيثما يوجد المرعى، راكبا حماره دون استخدامه وسيلة أخرى غير ذلك الحمار الذي كان ومازال طيعاً وصبورا بحق، وهذا يعني أن الإنسان العربي القديم لم يكن بدوي بمفهوم البداوة الحالي، وإنما حضرياً يستفيد من المرعى، والماء، الذي يخرج من الينابيع، أو الحفر اليسير، وربما امتهن الزراعة التي تعلمها من إخوانه الكنعانيين في سوريا، وبقي مع اغنامه حول مائه يستفيد من لحومها، وأوبارها، لكن بعد أن روض الجمل اصبح منطلقاً في الفيافي، ويعيش هناك يتنقل مسافات طويلة، وإذا حل الصيف وارتفعت حرارة الشمس، وقل الماء والكلأ، قرب من الواحات يستفيد من هو متاح هناك، وهذا ما كان واقعاً فعلا حتى فترة وجيزة. وربما أن منا من رأى ذلك. يبقى أن نقول إن الجمل كما يقال حقود لا ينسى الأذى، وأن أول من ذكر ذلك في كتاباته هو الفيلسوف اليوناني أرسطو، ولاشك أن العرب أدرى بالجمل من أرسطو، لكن العرب لا يدونون بينما الاغريق جبلوا على التدوين، فبقي اثرهم.