زكية إبراهيم الحجي
يوماً ما قالت لي جدتي موضي- رحمها الله- يا ابنتي»عندما تسيل الهموم عبر المزاريب لا أريد شيئاً سوى كسرة طمأنينة وراحة بال..كم أعجبتني هذه العبارة التي جاءت على لسانها وبقيت مطبوعة في ذاكرتي إلى يومنا هذا.. جدتي التي عاشت جزءًا كبيراً من حياتها في بيت طيني كغيرها من أسر زمن الطيبين.. زمن الآباء والأجداد حيث كانت بيوت الطين سائدة ومنتشرة في ذلك الزمن الجميل المتسم بعفويته وبساطته ترويها جدران ما تبقى من تلك البيوت الطينية التي لا زالت متناثرة بقلة هنا وهناك بسبب امتداد رقعة العمران الحديث..وتغير أنماط الحياة واختلاف مشارب الناس تبعاً للتغيرات التي تحدث يوماً بعد يوم وبشكل سريع.
لبنة وطينة معجونة بتفاصيل الإنسان ربما لكونه نسيجاً من طين فارتبطت علاقته بالطين وبنى مسكنه من الطين.. وصنع لوازمه وأدواته من الطين والحجر فامتزجت جميعاً بأحلامه وطبائعه.. ومنها لم يزل ينبض كبصمة تنتمي إلى تراث الأجداد فتثير حنيناً إلى ماض جميل احتضن أناساً طيبين.. وبالرغم من بساطة البناء يزيد جيشان المشاعر عندما تقع العين على أحد المباني الطينية التي لا زالت قائمة شامخة في أي مدينة من مدن المملكة العربية السعودية.. تتأمل الأشكال الجمالية من مثلثات ومربعات تزين الشرفات والأبواب بألوان مميزة.. فكم هي جميلة ذكريات الأماكن القديمة تروي جدرانها قصصاً بلا لسان.. وخلف أبوابها عاشت أرواح زينت الماضي في أعيننا وأخذنا الحنين إليهم كلما مرت ذكراهم.. ولا يفوتني أن أشير إلى أنه من المفارقات الطريفة والجميلة بأن من يقوم ببناء البيت الطيني هم أهل البلد، وقد يكون من علية القوم أو أحد وجهاء المنطقة، وهذه إحدى مزايا الزمن الجميل زمن الطيبين حيث تتجلى صفة الكرم والأريحية في أبهى صورها رغم قلة الموارد المعيشية لترافق مرحلة الإنشاء وحتى الانتهاء، ولا شك أن ذلك ينبئ على توحد المشاعر واجتماع القلوب على حب وود وتعاضد كل ذلك في انسجام تام.. بيوت الطين هي جزء لا يتجزأ من تراثنا الأصيل وأصالة الماضي العريق بل هي رمز لحضارة إنسان وجد من البيئة الطبيعية ما يغنيه ليعيش حياة بسيطة خالية من تعقيدات عصرنا الحاضر.. الحديث عن بيوت الطينية ومن سكنها في الزمن الجميل حديث ذو شجون.. والحنين لا يتوقف عند المرور بها بل يتجاوز ذلك إلى من سكنها وما قيس بن الملوح ببعيد عن ذلك حين صدح قائلاً:
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا