د. محمد بن إبراهيم الملحم
استكمالاً للحديث عن النوع الأول من اتجاهي التغيير وهو التغيير من الأعلى إلى الأسفل أستطرد معكم اليوم في المثال الذي أوردته حول قرار الفصول الثلاثة وكيف أنه كان محل معارضة (ولا يزال) لأنه انتزع من المعلمين مساحة كانت مخصصة لراحتهم، وأضاف لهم أعباء جديدة، والواقع أني لما اقترحت الفصول الثلاثة قبل سنتين لم يكن في مشروعي ما حصل من الحرمان في القرار الحالي وإنما اقترحت إعادة توزيع نفس زمن العمل على فصول ثلاثة مع الأخذ من الإجازة الصيفية (الطويلة المملة والمؤثرة سلباً على الطلاب) وإضافته إلى إجازة ما بين الفصلين لتصبح أسبوعين بدلاً من أسبوع واحد لا يسمن ولا يغني من جوع، فلا تتمكن الأسر من التمتع بالسفر، كما أني لم أبتدع فكرة إجازة نهاية الأسبوع الممتدة التي هاجمها المجتمع كله تقريباً وأثرت سلباً على همة الطلاب ونشاطهم التعلمي، لذا لعلي أتساءل ماذا لو كان القرار نفسه بهذه الطريقة، لا أظنه سيجد كل ما حدث من امتعاض سواء في البداية أو بعد أول سنة تجربة، خاصة أن الناس سيلمسون بعض المكاسب مثل نقصان كمية المادة التي يتم الاختبار فيها وتضاعف مدة إجازتي ما بين الفصلين مقابل التغيير الذي حصل في نمط الحياة فيكون هذا موازناً لذاك
ويهمني أن أعود إلى حديثي السابق عن دور «صُنّاع» القرار حيث توضح لنا أهميتهم، فعلى الرغم أنهم يبادرون بمقترحاتهم لقرارات تغييرية جديدة ويقنعون بها الرجل الأول إلا إنه في الحالة التي ينشأ فيها القرار الجديد باقتراح من الرجل الأول نفسه فإن لصناع القرار أهمية في تلطيف هذا القرار إن كانت به بعض الأضرار، بل ربما يتمكنون أحياناً من إقناع صاحب القرار (ومتخذه في الوقت نفسه) بعدم جدوى قراره فيتخلى عنه، خاصة إذا كان هذا الرجل الأول من النمط القيادي الشوري ويتعامل مع من حوله بطريقة صحية في تطبيقه لموقعه القيادي، بينما في الحالة التي يتبع فيها النمط السلطوي (ممارس السلطة) فإنه لن يستفيد من صناع القرار في هذا الشأن لأنهم سيحاولون تقديم ما يرضيه حتى لو كان على حساب المؤسسة، فيتحول دورهم من إعمال الفكر في مناقشة فكرة القرار نفسه إلى إعمال الفكر في البحث عن مبررات له واقتراح مشاريع لتحسينه والعمل على نجاحه بأي ثمن، حتى لو كان نجاحاً مظهرياً يساعد الرجل الأول على الفخر بقراره الجديد دون أن يحقق نتائج استراتيجية أو تكون له قيمة عميقة أو عائد على الاستثمار.
وعندما يكون القرار التغييري الجديد نابعا من صناع القرار فإنهم (أو أحدهم) يصلون إلى إقناع المجموعة في جلسة واحدة أثناء اجتماع بينهم أو من خلال أسلوب اللوبي Lobbying، وفكرة هذا الأسلوب أن صاحب الفكرة ينشىء من بعض زملائه لوبيا يؤمن بفكرته ليدعمه أثناء الاجتماع العام في تسويقها سواء للبقية أو للرجل الأول، وهذا الأمر مشروع في الواقع بل يمكن وصفه أنه جزء من أفضل الممارسات Best Practices، وتكوين هذا اللوبي يكون عادة بالاتصال بهم واحداً واحداً لإقناعهم بالفكرة الجديدة، لأن الجلوس الفردي مع كل شخص سيضمن له سهولة شرح الفكرة وضمان استيعاب الطرف الآخر لها من خلال الحوار المتبادل بينهم بخلاف ما يتوقع أحياناً من الشرح لمجموعة من الأفراد فلا تضمن أن كل واحد من المستمعين فهم المقصود بالدقة نفسها التي يرمي إليها صاحب الفكرة إلا إذا تحدث ذلك الشخص المستمع بما يدور في ذهنه حول الفكرة، أما إن استمع وظل صامتاً فربما كان وراء الصمت رفض نتيجة فهم خاطئ، وهذا يحدث كثيراً، والواقع إن القرار الذي ينشأ من صناع القرار غالباً ما يكون أفضل من ذلك الذي يقترحه الرجل الأول أو يأتي به من خارج مجموعة الخبراء هؤلاء، والسبب أنهم غالباً ما يفكرون في تغيير يساعدهم على النجاح في عملهم وفي الوقت نفسه هم يملكون معرفة بالتفاصيل أكثر من الرجل الأول أو من أولئك الذين هم خارج المؤسسة حتى لو كانوا عملاءها أو المستفيدين من خدماتها، فالخبراء (أو صناع القرار) لديهم معرفة بمتغيرات أخرى لا يعرفها غيرهم.
القرار من الأعلى للأسفل يختصر الزمن لأن تنفيذه يكون سريعاً نتيجة لما يحمله من سلطة التنفيذ بخلاف الاتجاه الآخر من الأسفل للأعلى والذي لا ينبع أصلاً من أصحاب السلطة وإنما من المنفذين أو المرؤوسين لذا يحتاج وقتا لينمو ويظهر وينتشر فتظهر آثاره، ولهذا السبب فإن كثيراً من الوزراء والمسؤولين يميلون بشدة إلى نوع القرار التغييري من الأعلى للأسفل لأنهم يريدون حصد نتائج القرار بأنفسهم سريعاً وقبل أن يغادروا المنصب، وهذا سبب لكثير من القرارات الغريبة والمستهجنة التي تستنزف الجهد والمال وربما تعود بالضرر على فئات من الناس ولا تحقق التوازن المطلوب عند اتخاذ القرار التغييري.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً