مها محمد الشريف
يرى هنري كيسنجر أن الوضع الجيو سياسي على مستوى العالم سيخضع لتغييرات كبيرة بعد انتهاء حرب أوكرانيا، وأنه ليس من الطبيعي أن يكون للصين وروسيا مصالح متطابقة في جميع المشكلات المتوقعة، مشيراً إلى أنه لا يعتقد «أنه يمكننا توليد خلافات محتملة، لكن أعتقد أن الظروف ستخلقها».
وأوضح أنه بعد حرب أوكرانيا، سيتعين على روسيا إعادة تقييم علاقتها بأوروبا، على الأقل، وموقفها العام تجاه «الناتو»، مضيفاً، «أنه من غير الحكمة اتخاذ موقف معاد لخصمين بطريقة تقربهما من بعضهما ويقصد روسيا والصين، وبمجرد أن نتبنى هذا المبدأ في علاقاتنا مع أوروبا، وفي مناقشاتنا الداخلية، أعتقد أن التاريخ سيوفر فرصاً يمكننا من خلالها تطبيق نهجنا التفاضلي».
وليس من الوارد بطبيعة الحال، في مثل هذا السياق أن يكون التناول موجزا، بل سيكون الخوض مختصراً في أفكار هذا الرجل وتوجهاته ونظرياته لهذه الحرب، فلا مناص إذن من أن أكتفي بإشارات سريعة يمكن الارتكاز عليها وهي الخطط الهادفة إلى توسيع نطاق الناتو حتى أوكرانيا، وتفهم روسيا لهذا المخطط الغربي الذي أثار غضبها.
فالجذور الحقيقية للأزمة الضاربة في الأعماق تفيد بأن توسع الناتو والتزام واشنطن بإخراج أوكرانيا من فلك موسكو وإلحاقها بالغرب ضمن أولويات الغرب، الأمر الذي اعتبره بوتين تهديداً مباشراً لجوهر المصالح الروسية، والخطر هنا لم يكن عرضياً ولكنه يخبئ مغامرة تعزز المخاطر وتفاقمها فالسياسة العالمية سلاح ذو حدين، حتى التي تبدو أكثر ارتباطاً بوعود العدالة الكونية في المساواة تتصرف عملياً من خلال مفهوم السيادة، وهي تتظاهر باتفاقها مع فكرة المجتمع الدولي ووعود سياسية وردية.
في الواقع كل هذه الأزمات، كان من الممكن حلها كمسألة معقدة تستدعي تحديد الغاية الخاصة منها لأنها تشكل كارثة أكبر وعواقبها وخيمة على العالم، وإدراك تجاوز الخط الأحمر الداخلي للطرف المقابل، وطرح حالة من التوازن وإحلال السلام كبديل للعداوات الدائمة بين الغرب وروسيا، ولكن مع تغير الظروف السياسية، تتغير معها علاقة توازن القوى، وتفقد معاهدة التحالف قيمتها، وقد لا تجدد ثانية، وحليف الأمس يتحول إلى عدو جديد، وهذا المضمون يوافق السؤال البديهي لكسينجر وهو إلى متى سيستمر هذا التصعيد؟.
فهل الشهرة الواسعة التي حققها السياسي المخضرم هنري كيسنجر، هي سبب تسليط الضوء على تصريحاته التي أدلى بها حول الحرب الدائرة في أوكرانيا، وذلك خلال مشاركته في منتدى دافوس للاقتصاد العالمي والتي دعم فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد رئيس بلاده جو بايدن؟، أم أنه فعلاً عبر عن رأي مراكز الفكر بواشنطن وهي التي تقدم المشورة لمؤسسات الحكم في الدولة لتساعدها في صناعة القرار السياسي.
مهما يكن من أمر، فإن كيسنجر وسياساته عُرف عنها بأنها لم تكن موضع اتفاق أبداً لا داخل الولايات المتحدة ولا خارجها، ولا أيّام توليه المناصب الرسمية ولا بعد تركها، وكثير من مواقفه تعرضت لانتقادات من اليمين الأمريكي قبل اليسار، ومنهم من رآه مجرم حرب موغلاً في الوحشية يحمل وزر دماء الملايين وفرض الهيمنة على الشعوب الفقيرة وتدمير مجتمعات كاملة من لاوس وكمبوديا إلى فيتنام، ومن تشيلي إلى بنغلاديش.
فالتوترات السياسية قديمة لا زالت متواصلة لم تهدأ. بل تجددت وارتفعت وتيرتها بعد الحرب على الحدود بين الحلف وروسيا منذ زمن، في أسوأ أحوالها بعد الحرب الباردة، وهذا الجانب بالذات يخلق التنافس الذي يؤجج الخلافات ويثير الصراعات والحروب، ويعقد فهم العلاقات المتبادلة بين الدول، وتلك العقلية التي لا تستطيع إخماد ثوراتها وتعتبر التاريخ مهمة لا يمكن تحقيقها إلا بوجود العديد من صفحات المصالح بشكل منفرد، فهناك مشكلة غير قابلة للنقاش في دائرة القرار السياسي واستمرار صناعة العلم والتكنولوجيا لكل هذا التطور والتقدم في شتى العلوم، واستخدمها بشكل مبالغ فيه لقتل الإنسان وتصنيع المزيد من الأسلحة النووية وقدرتها الخارقة التي تلوح بها روسيا وأمريكا على تدمير الكوكب والبشرية.