د. عيد بن مسعود الجهني
رغم أن من المفاهيم المتعدِّدة للأمن القومي في هذا الزمان قيام الدولة - أية دولة - تأمين شعبها في جميع الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ضد أية أخطار قد تواجه الدولة ومواطنيها وسيادتها.
والمتتبع لتعريفات الأمن القومي المتعددة يتضح له أنه ليس هناك تعريف جامع مانع يمكن الأخذ به.
وفي رأينا أن الأمن بمفهوم مبسط يعني حق أية دولة حماية وجودها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتنموي، وبهذا فإن كل تلك المحددات تخرج من رحم (التعليم)، فبدونه لا يمكن أن يكون هناك أمن واستقرار وببساطة لن تكون بدونه أية دولة آمنة ومستقرة.
نضرب مثلاً في الستينيات من القرن المنصرم في بلاد العم سام انتخب الرئيس كيندي، وقد كان أهم ملف أمامه أن تصبح بلاده رائدة في علم الفضاء، وبالفعل خلال سنوات معدودة هبط رواد فضاء أمريكيون على سطح القمر.
لم يأت ذلك من فراغ إنما من خلال بحوث ودراسات علمية جادة ومبالغ فلكية أنفقت بنسب معقولة من إجمالي الناتج المحلي لذلك البلد، الذي تبعه فيما بعد دول أخرى منها روسيا والصين وغيرها فتقدمت تلك الدول من خلال التعليم والاستثمار في العنصر البشري، فهو في كل العلوم القائد والمحرك لبوصلة التقدم والتطور الذي من ضمن أهدافه الأمن القومي.
التعليم إذاً هو الوسيلة الأساسية في بلوغ الدولة هدفها لضمان سلامة إقليمها وسيادتها وحدودها وشعبها ومكتسباتها وتحقيق التطور العسكري بمعناه الواسع بناء (القوة) التي تحمي كيان الدولة على المستويين الداخلي والإقليمي والدولي، فهي (القوة) أم الأمن القومي القادرة على فرض الهيمنة والرادعة للأطماع الإقليمية والدولية.
ولا يمكن الحديث عن أمن الدولة دون التعرض للسياسة الخارجية للدولة، فهي التي تعكس مستوى أمن وقوة الدولة في منظومة المجتمع الدولي، رغم أن الأمن القومي لا يقدم فروقاً بين داخل الدولة وخارجها، فالسياسة الداخلية والخارجية للدولة تدخل في نطاق الأمن القومي باعتباره أحد أهم محاور الحفاظ على قيم الدولة الجوهرية بالنسبة للمفهوم الشامل للأمن القومي.
لذا لماذا تقدمت دول وتأخرت أخرى؟ الجواب شديد الوضوح فهذه الدول تقدمت سريعاً من خلال بوابة البحث والتطوير العلمي وخصصت مبالغ فلكية من إجمالي ناتجها المحلي للبحث العلمي، بيانات معهد اليونسكو للإحصاء تبين أن أربع دول من بين دول العالم تنفق أكثر من (100) مليار دولار سنوياً على البحوث والتطوير، الولايات المتحدة وحدها تنفق أكثر من (480) مليار دولار، تليها الصين بـ(375) مليار دولار.
من ناحية أخرى وطبقاً لبيانات معهد اليونسكو للإحصاء تستحوذ (100) دولة على (80) في المئة من حجم الإنفاق الدولي على البحث والتطوير، لكن تبقى أمريكا التي ينخرط في قطاع البحث العلمي أكثر من ( 4300) باحث عن كل مليون نسمة يمثِّل إنفاقها على البحث مبلغاً ضخماً 27 في المئة من إجمالي الإنفاق الدولي على هذا المرفق المهم.
الدول العربية إنفاقها على البحث والتطور العلمي الذي يعتبر العمود الفقري لأمنها القومي في زمن (القوة) يعتبر متواضعاً مقارنة بالدول المتقدمة في العلوم التطويرية في ميدان البحث العلمي، وتنشر مراكزها البحثية الحكومية والخاصة العديد من البحوث النافعة والتي تشمل الاقتصاد والطاقة والإدارة، والاستثمار والتكنولوجيا الطبية والعسكرية ... إلخ.
دولنا العربية كما نوّهنا المبالغ التي تنفقها على هذا المجال متنوع التخصصات نسبته متواضعة تبلغ ما بين (0.1 و0.2) في المئة من إجمالي ناتجها المحلي، رغم أن من بينها دولاً غنية بثرواتها المتعددة من نفط وغاز وطاقة متجددة وصناعة وزراعة، ويمكنها الاستثمار في العنصر البشري فهو صانع التقدم والتطور والتنمية المستدامة.
ويبرز الأمل في بعض الدول العربية التي تطورت فيها جودة التعليم فمؤتمر دافوس لقياس مؤشر التعليم لعام 2021 في الدول العربية والذي يعتبر من إحصاءات المنتدى الاقتصادي في دافوس قدم كلاً من السعودية والإمارات وقطر ولبنان والأردن والمغرب وتونس والكويت وسلطنة عمان كدول تقدمت في ميدان التعليم.
هذا مؤشر يحمل في ثناياه آمالاً واسعة قد يخرج من رحمه تطور في صناعة التعليم في الوطن العربي، وقد يحدث تغييراً إيجابياً على مخرجات التعليم عامة لتجعل من التعليم أملاً أساسياً في بناء الدول والمجتمعات وتطورها ونهضتها بادئة بخطط وإستراتيجيات وسياسات تعليمية هدفها رفع مستويات الطلبة في مناهج التعليم بدءاً من السنة الأولى في المرحلة الابتدائية.
المملكة في حقل التعليم العالي تعتبر من أوائل الدول العربية في هذا التخصص العلمي الأهم في المسيرة التعليمية، تبرز هنا أسماء كل من جامعة الملك سعود، جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، جامعة الملك خالد، جامعة الملك عبد العزيز، جامعة الملك فيصل، جامعة الفيصل، ويلي التعليم العالي في السعودية التعليم في نفس التخصص في كل من مصر والإمارات.
ولأهمية البحث العلمي فإن الرؤية 2020 - 2030 التي جاءت إستراتيجية مستقبلية متكاملة طوت تحت مظلتها خطط التنمية السابقة لها، لذا فإن من مخرجات الرؤية الدفع بعجلة البحث العلمي في المملكة إلى الأمام ليدخل سباق المنافسة مع الدول المتقدمة، ورغم أن عمر الرؤية لا يزال في مرحلة الشباب، إلا أن بلاد الحرمين الشريفين أصبح لها الصدارة في قائمة الـ(50) الدول العالمية، وبذا تصبح الأولى عربيًا في ساحة البحث العلمي المتقدم وذلك طبقاً لمؤشرات (نيتشر) Nature Index .
هذا يوضح الدعم الحكومي غير المحدود لصناعة البحث العلمي والتطوير والابتكار، وقد تم إنشاء هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار هاتين الهيئتين سيكون لهما القدح المعلا في رفع مستوى البحث العملي والتطوير في القطاعين العام والخاص في البلاد تطبيقاً لمخرجات الرؤية التي يأتي البحث العلمي في مقدمة أهدافها، مثله مثل التطور الاقتصادي والتنموي والاستثمار في العنصر البشري من خلال بوابة التعليم والتدريب في جميع التخصصات التي يتطلبها سوق العمل الذي تغير وجهه خلال السنوات الماضية.
الجامعات السعودية في القطاع العام منتشرة في كل مدن ومحافظات البلاد وتحت قبتها جميع التخصصات، وفي السنوات الأخيرة وتطبيقاً للرؤية تعددت الجامعات الخاصة والكليات، ليشارك القطاع الخاص القطاع العام في دعم عجلة التعليم في بلاد الحرمين الشريفين.
ولا شك أن دور الجامعات وأهميتها يبرز في الأدوار المتعددة التي تؤديها فبالإضافة إلى العملية التعليمية ، هناك البحث العملي، ولذا فإن الرؤية ركزت وبوضوح شديد على هذه الأهداف ومنها خدمة المجتمع.
وإذا كانت (الرؤية) في مخرجاتها أولت اهتمامًا خاصًا للبحث العلمي، وهو يخرج من رحم الجامعات ومراكز البحوث المتخصصة، بالمفهوم العلمي، ولأن الجامعات تعددت في طول البلاد وعرضها من حكومية وخاصة، لذا يصبح ضرورة وليس ترفاً التنسيق بين تلك الجامعات من خلال هيئة إدارية مستقلة لها اتصالها بالجهات التي ترسم خطوط التنمية في البلاد خاصة إستراتيجية (الرؤية).
وفي هذا تحفيز للجامعات بحصولها على كل المعلومات الإحصائية عن طريق هيئة الإحصاءات العامة ووزارة الموارد البشرية عن سوق العمل ومتطلباتها حاضراً ومستقبلاً، وذلك بالتعاون مع وزارة التعليم الحاضن الرئيسي للتعليم العام والعالي في البلاد وبذلك تتحقق كل وظائف الإدارة الأربع وفي مقدمتها (التنسيق) بين جهات الدولة والقطاع الخاص.
وزارة التعليم لها تاريخ طويل في خدمة العلم والتعليم، فتاريخ إنشائها يعود إلى عام 1373هـ بمسمى وزارة (المعارف)، وبعد عدة عقود أصبح المسمى (وزارة التربية والتعليم)، وألحقت بها (الرئاسة العامة لتعليم البنات) ثم عدل المسمى ليصبح اليوم (وزارة التعليم) وألحقت بها وزارة التعليم العالي.
هذا الجهاز التعليمي الضخم الذي ينضوي تحت مظلته الواسعة ملايين الطلبة في المدارس والمعاهد والكليات والجامعات ناهيك عن العدد الغفير من المعلمين والأكاديميين والموظفين والعاملين ... إلخ، بعد أن أصبح جهازاً واحداً يحتاج إلى إعادة هيكلة إدارية ومالية تساعد القائد الإداري ومعاونيه وموظفي الوزارة على إدارة دفة هذه السفينة الإدارية والمالية التي تدير جهاز التعليم في بلاد الحرمين الشريفين.
هذا هو بلسم رفع كفاءة الأداء والتغلب على كل المعوقات التي تحد من زيادة الإنتاجية، وهذا (باختصار) يحدث تغييرات مهمة في الأوضاع الإدارية والمالية المطبّقة منذ زمن قريب أو بعيد.
وإذا ما تمت إعادة الهيكلة لجهاز التعليم بأسلوب إداري ومالي حديث، فإن الإدارة العليا والوسطى (مثلاً) تتحرَّر من كل القيود والضغوط التي قد تحد من حركتها وفعاليتها، وبذا تصبح إعادة الهيكلة لجهاز يحجم وزارة التعليم أمراً ملحاً، بل واجباً، ليلتحق بركب (الرؤية).
والله ولي التوفيق،،،
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة