غالب الذيابي
ما زال هذا الطيف الربيعي يصطاد المغفلين من السذج يوم يهبطون إلى سوقه الرديء ليبتاعوا من رخيص بضاعته، يستميلهم بريق سلعته دون تمييز لمعدنه. ذلك نحن، وتلك المنصة التي ما فتئت تثير الفزع وتجعل الجباه تتصبب عرقاً. يا لكم قتلت من حي ذهبنا لعزاء ذويه فوجدناه في استقبالنا!
ليتبين لنا فيما بعد أنها الإشاعة ولا غير! وكم من مقطع مصور ثارت له ثائرتنا، فنعتنا ذلك المقطع وأصحابه بأقذع العبارات. ولاحقاً تقلص الحجاب عن الحقيقة شيئاً فشيئا فتجلى لنا الأمر ووجدناه لا يعدو كونه تلفيقاً محترفاً الـ موشن Motion Graphic
بالله عليكم لماذا تستهوينا الإشاعة وننجر خلفها! وقد تجلى لنا في كتاب الله قوله الذي تنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم منذ ما يزيد على ألف سنة فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات 6].
وعلى ذكر الإشاعة سأذكر قصة طريفة بطلها الإمام عبد الله بن فيصل بن تركي -رحمه الله- فقد تكلم أحد شيوخ القبائل في حضرة قومه قائلاً: إنني تأكدت أن الإمام عبد الله بن فيصل بن تركي غاد في غزوة. فمن جاءني مبشّراً بموته لأنحرن اثنتين من الإبل، وكان أحد أقارب الشيخ حاضراً يسمع، فأخذ ينظر لحالته وحال الأجساد الغضة في بيته وهي حالة بالطبع تشكو لله. فقرَّر إطلاق الإشاعة وأحكم خطتها، وبعد مضي ثلاثة أيام أقبل هذا الرجل يجري نحو شيخ القبيلة وكأنه يمتطي صهوة الجن، فأشاروا عليه بالهدوء حتى يسترد أنفاسه ليستطيع الكلام. وما هي إلا دقائق حتى سألوه، ما الأمر؟ قال إنما جئت بشيراً بعدما تأكدت أن الإمام عبد الله بن فيصل بن تركي قتل عصر أمس في غزوته التي سمعتم بها، فقام الشيخ على الفور بنحر اثنتين من الإبل كما نذر، وما إن نال الرجل نصيبه ونصيب أسرته من اللحم أسر لزوجته أنها إذا تأكدت من غرق الجميع في النوم فإنها تقوم بهدم بيت الشعر وحمله على الجمل محدداً لها نقطة التجمع من جديد. وما إن طلع الفجر حتى بات مكان الرجل خالياً. فعرف الشيخ أن الخبر إشاعة وأن الرجل نجح أحكامها.
فسمع الإمام عبد الله بن فيصل بن تركي -رحمه الله- بهذه الطرفة وكتب للشيخ قائلاً.
من عبد الله بن فيصل بن تركي إلى الشيخ (..............) أن الناقتين اللتين نحرتهما إنما هي لخبر الإشاعة، وعليك نحر ناقتين للخبر اليقين)! انتهى.
يا له من نذر كشف ما حاك في النفس وخشي أن يطلع عليه الناس، ويا له من جوابٍ ما توشح النور بمعانيه الإيمانية السامية. أولها أن الموت لا يحتاج إلى نذر فهو آتٍ لا محالة. وثانيها تذكيره بالآية: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ (91 سورة النحل) والنذر نوع من عهد الناذر مع الله.
وزماننا هذا ليس زمان ذلك الشيخ المتهور صاحب النذر المذكور الذي وثقت طرفته في إحدى المخطوطات لندرة الإشاعة آنذاك، أما اليوم فزمن التفنن في إدارة الإشاعة وصياغة الخبر المكذوب الاهتمام بأدواته التي تسرق العاطفة من النفس. سوف تبقى نظرتي سلبية تجاه الأيقونة الخضراء، لم أعد أهتم بقيمتها الإيجابية وإن كنت لا أنفي حسناتها لكنها حسنات غارقة في بحار الخطايا، بل إن مشاكلها باتت مكدرة لمباهج الحياة في أحيان كثيرة، ويكفي أن تنبيهاتها المتتابعة كفيلة بسلب النائم لذة الكرى إن لم تكن طاردة لنومه أصلاً.
وبينما أختم مقالتي هذه إلا والقريحة قد فرغت وجادت بهذه الأبيات الغاضبة والتي تتركز برمتها على (أفاعيل) الأيقونة الخضراء:
يا كثر ما جبتي من أصناف الازعاج
زودٍ على ثقل القروب الإشاعة
وياما دفعتي ناس لدروب الاحراج
مصدرك مجهولٍ خفيٍّ يراعه
وعالمك خصبٍ للملل ما به انتاج
إلا ثمين الوقت ببلاش أضاعه
ونغمتك خلت لذة العين تحتاج
لمراجعة تفكير في كل ساعة
وحذفي لكل قروب راحات وعلاج
قراري المدروس جا عن قناعة
ما عاد انا اللي ينجرف خلف الامواج
أخذت لي جرعة تزيد المناعة