م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1- التنوير فِعْل.. وهو فعل لا يختص بموضوع محدد بعينه بل يشمل كل شيء يُسَلَّط عليه الضوء فيظهر بشكل أوضح، ويتم استيعابه بشكل أعمق بحيث يمكن تطبيقه والاستفادة منه.. كأن تشرح مثلاً كيف تعمل آلة، أو توضح فكرة ما، فهذا يعد تنويراً.. الأمر الآخر أن التنوير كفعل ليس مختصاً بموضوع معين، أو مقصوراً على مرحلة ما، أو لا يقوم به إلا أشخاص محددون.. فهو يغطي كل الأزمنة ويمكن أن يقوم به أي شخص.. كلٌّ في مجاله الذي يجيده ويفهم فيه.
2- ومع هذا فإن مصطلح التنوير يكاد يتفق المحللون على أنه يخص الفكر ويقوم به المفكرون والمصلحون.. ويصفون به النضال الذي قام به المفكرون الأوروبيون لمقاومة أفكار الكنيسة.. وترسيخ قيم العقل والحرية والتقدم مقابل واقع الكهنوت الذي يؤصِّل الخرافة والجمود والاستبداد.. وظهر هذا المصطلح في القرن الثامن عشر حينما بدأت علامات انتصار التنوير على كهنوت الكنيسة، وأزف انتهاء مرحلة القرون الوسطى الأوروبية.. فبدأ فكر التنوير وقيمه التي يُشِيْعُها في إيقاظ الوعي في المجتمع الأوروبي.. وانطلقت أوروبا في التأسيس لحداثتها.
3- التنوير يقوم على ثلاثة قيم أساسية وهي: تقديم العقل، وضمان الحرية، والدفع للتقدم.. ثلاثة مرتكزات هي التي أسست للحداثة الأوروبية القائمة.. فهي التي أدت إلى قيام الثورة الفرنسية.. وهي التي جعلت من الإنسان محوراً لأي نزعة تنموية تقدمية.. وأضفت على الحضارة بعداً إنسانياً عميقاً وشمولياً.. وأعلت من القيم الإنسانية المشتركة.. وأوجدت بيئة مُرَحّبة بفعل التنوير.. مما طور التنوير من مجرد فعل إلى فلسفة سميت (فلسفة الأنوار).. كما سمي القرن الثامن عشر (بقرن الأنوار)، وتم تدشين الفلسفة الجديدة.
4- «فلسفة الأنوار» اعتمدت وسائل منها تطوير منهجية القياس.. فأنت لا تقيس على الماضي بل على الاستقراء القائم على الملاحظات الحسية الناتجة من التجريب.. وبذلك تم إصلاح المنهج العلمي.. أيضاً اعتمدت فلسفة التنوير على المنهج العقلي في التحليل والتفسير للظواهر القائمة على الشك في كل شيء حتى تثبت صحته.. ومنها تم الخروج بنظرية (ديكارت) «أنا أفكر إذاً أنا موجود».. وهي فلسفة تُعْلي من مقام العقل.. أي أن التنوير في حقيقته هو تزاوج المعرفة العقلية مع المعرفة العملية.
5- التنوير في أصله دعوة لاستخدام العقل.. ومن القصور أن يعجز الإنسان عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر.. وأن عدم استخدام الإنسان لعقله ليس بسبب الافتقار إلى العقل بل بسبب الافتقار إلى الشجاعة والعزم اللذين يحفزانه على استخدام عقله بدون وصاية أو توجيه إنسان آخر.. لذلك فإن فلسفة التنوير هي دعوة لتكون لديك الشجاعة لاستخدام عقلك.. وهذه الدعوة ارتبطت بعدة مفاهيم منها: القصور مقابل الرشد، التبعية مقابل الحرية، الثورة مقابل التدرج، الاستعمال العمومي للعقل مقابل الاستخدام الخصوصي للعقل.. وهذه المفاهيم قائمة على أن الإنسان هو المسؤول عن أي قصور يعتريه.
6- التنوير ليس حدثاً فجائياً.. وليس أمراً يمكن توجيهه فيُطَبّق.. بل هو حدث لن يبلغه الإنسان إلا بتأنٍّ وتدرج.. ولا يمكن إصدار الأمر للناس بأن يستخدموا عقولهم فيستخدموه على الفور.. بل عليهم أن يتعلموا كيف يستخدمونه.. ويزودون عقولهم بالمعارف التي تجعل من استخدامهم لعقولهم أمراً سليماً صحيحاً.. أي أن التنوير مرحلة تصاعدية حتى تصل إلى درجة النضج.. الأمر الأكيد فيها هو توعية الناس وتوجيههم إلى استخدام عقولهم والباقي يأتي ضمناً وتباعاً.
7- الخلاصة أن التنوير فعل ممتد لا يتوقف ولا ينتهي بظهور منتجات له.. وهو فعل متواصل، والتوقف عنه مدعاة للنكوص والتراجع.. التنوير ليس فكرة أو منتجاً أو نظرية أو فلسفة أو مشروعاً بل هو فعل وعمل وحث وبحث.. كما أنه عمل فردي نتيجته جماعية.. وبما أن التنوير ليس فكرة أو منتجاً بل هو دعوة للتفكير، إذاً هو ليس قابلاً للنقد ولا النقض ولا التوجيه.. كما أنه ليس له سقف أو حدود.. فحدوده هي قدرة الفرد الذاتية.. حيث إن لكل إنسان مَلَكاته الفردية التي لا يستطيع أن يتجاوز سقفها.