محمد سليمان العنقري
منذ إطلاق مبادرة الحزام والطريق الصينية قبل قرابة عشرة أعوام, تحول ميدان التنافس بين بكين وواشنطن إلى كسب الدول النامية, والتي تمثل أسواقها وثرواتها غير المستغلة أكبر فرص دعم نمو الاقتصاد العالمي, وكذلك فإن من يصل لها بخبراته وأمواله وشركاته من القوى الكبرى سيصبح هو سيد التجاوة العالمية لهذا القرن, ولذلك تسارع حراك هذه القوى بالسنوات الأخيرة نحو الدول الفقيرة بمختلف القارات.
فالقارة الإفريقية يتوقع أن يتضاعف ناتجها الإجمالي ثلاثة أضعاف الأرقام الحالية حتى العام 2040 م وهي غنية بالثروات الطبيعية, وتحتاج لاستثمارات ضخمة جداً لبناء اقتصاد دولها, وينطبق ذلك على دول عديدة في قارة آسيا, وبما أن الصين أول من تنبّهت لضرورة وضع خطة استراتيجية تعزز حضورها العالمي بعلاقات تجارية وشراكات مع تلك الدول, فإن القوى الغربية تنبهت متأخرة أنها لا تملك خطة مقابلة لمبادرة الحزام والطريق والتي تعرف بطريق الحرير أيضاً, وهو ما بدأت تعمل عليه منذ شهور من خلال مبادرة إعادة بناء عالم أفضل أطلقتها مجموعة السبع الكبار بقيادة أميركا.
لكن هل اشتعال هذه المنافسة على كسب الدول النامية من تلك الدول الكبرى هو في مصلحة شعوب هذه الدول؟ أم أن ما سيحدث ليس أكثر من سيطرة من نوع استعماري جديد للتحكم بقراراتها السياسية والاقتصادية؟ ولعل المقارنة تظهر من سبق الآخر من طرفي المنافسة فالصين وخلال آخر 18 عاماً موّلت أكثر من 13 ألف مشروع بمبالغ وصل مجموعها إلى 843 مليار دولار في 165 دولة حسب تقرير صادر عن مركز أبحاث AidData في جامعة ويليام أند ميري في ولاية فرجينيا الأمريكية.
فالصين تخصص أموالاً لدعم التنمية بتلك الدول ضعف ما تخصصه أميركا, ومن هنا يظهر فارق التقدم الذي أحرزته الصين في هذا المضمار إذ إنها على سبيل المثال متواجدة بحوالي عشرة آلاف شركة صينية في 49 دولة إفريقية من أصل 54 الذي هو مجموع دول القارة, وأقامت مشاريع بنية تحتية ضخمة, وأصبحت لها علاقات وشراكات راسخة, بينما عند النظر لمجموعة السبع فإنها للتوّ أعلنت عن نيتها ضخ 600 مليار دولار في البنية التحتية عالمياً, وقالت أميركا إنها ستضخ 200 مليار دولار بالدول النامية لتقليل الفجوة مع العالم في مجالات عديدة منها المرافق الصحية ودعم الطاقة المتجددة وغيرها.
أما أوروبا فستضخ 300 مليار دولار خلال خمسة أعوام قادمة بالدول النامية لذات الأغراض, فبعد إهمال طويل الأمد لتلك الدول من قبل من استعمرهم لعقود أصبحوا الآن هم الهدف بضخ الاستثمارات, فمن أشعل هذا التنافس والاندفاع نحوهم هو التحرك الصيني الذي قرأ المستقبل بمنهجية أفضل من الغرب المتقدم في كل شيء, والذي كانت لديه الفرصة لمثل هذه المبادرة قبل الصين بسنوات طويلة.
فما يدفع كل هذه الأطراف الكبرى المتنافسة على سيادة الاقتصاد العالمي والتحكم بمساراته على كافة الأصعدة هو حجم أسواق تلك الدول العطشى للاستثمارات مع وجود ما يضمن سدادها من ثروات طبيعية هائلة موجودة بالدول النامية وطاقات بشرية تبحث عن أي فرصة عمل, ولذلك مع غياب التنمية لديها زادت هجرات الشعوب الإفريقية إلى أوروبا بنسب كبيرة بالسنوات الأخيرة، فالصين لا تريد أن تبقى أسواق أوروبا وأميركا هي من تستحوذ على جل صادراتها, وترغب بفتح أسواق أخرى ولذلك أطلقت مبادرتها ودعمتها باستثمارات ضخمة بتلك الأسواق الجديدة, فهي تضع معادلة متوازنة بين تنمية داخلية ورفع دور المستهلك الصيني والاستمرار بالريادة العالمية في التجارة الدولية مع توسع بأسواق جديدة مما يخفض من مخاطر أي تحرك غربي ضدها كالحرب التجارية التي أعلنتها أميركا عليها في فترة الرئيس ترمب, إضافة لكونها من أكبر مستوردي الموارد الطبيعية من خامات النفط والغاز والمعادن فإن تنويع مصادر هذه الموارد من قارات ودول عديدة يضمن لها استدامة تدعم نموها الاقتصادي, وبالمقابل هي من تقدم لتلك الدول القروض وتبني عبر شركاتها المشاريع التي تخدم رفع التجارة البينية مع تلك الدول, أما الغرب فما يبدو عليه اليوم من تحرك قد يكون لوقف توسع الصين قبل أي اعتبار آخر, ولعل الخطورة التي يعايشونها حالياً تحديداً أوروبا من مخاوف وقف الغاز والنفط الروسي قد زادت من رغبتهم الاتجاه لدول غنية بالثروات الطبيعية لتوفير مصادر بديلة عن ما يستوردونه من روسيا.
على وقع الحرب الروسية على أوكرانيا والتي كشفت عن ثغرات كبيرة في جسد الاقتصاد العالمي, ومدى قصور خطط دول الغرب عن حماية اقتصاداتها وأخطائها التي يسرت لمنافسيها الصعود والوصول لمكانة لا يمكن هزها بسهولة, ينتقل الصراع لساحة واسعة من التنافس ميدانها الدول النامية ومحاولة كسب أكبر عدد ممكن من هذه الدول من خلال مبادرات يضخ كل طرف منهم مئات المليارات ليعزز نفوذه الدولي جغرافياً, لكن لا تبدو الفرصة كبيرة لمن يأتي متأخراً, كما أن الدول النامية وعبر اتحاداتها القارية أو التكتلات التي تنتمي لها يمكنها أن تضع شروطها الموحدة لقبول هذه الاستثمارات والشراكات بما يخدم مصالح شعوبها ويعزز من دورها بنمو الاقتصاد العالمي.