د.سالم الكتبي
استقال نواب التيار الصدري في مجلس النواب العراقي (73 نائباً) بشكل جماعي، بعد شهور من الانسداد والشلل والجمود والصراع السياسي؛ فرغم فوز هذا التيار بالكتلة الأكبر في الانتخابات التي جرت في أكتوبر الماضي، فإنه لم يتمكن من تشكيل الحكومة بسبب اعتراضات من جانب منافسيه في «الإطار التنسيقي»، الذي يضم بقية القوى الشيعية، التي ترفض تشكيل حكومة أغلبية برلمانية مع حليفيه «الديمقراطي الكردستان» و»تحالف السيادة» السني.
بعيداً عن البحث في تفسيرات ودوافع قرار مقتدى الصدر بانسحاب أعضاء كتلته البرلمانية، فإن حالة الانسداد السياسي تتفاقم، حيث تبدو السيناريوهات السياسية المقبلة مفتوحة على كل الاحتمالات، حيث يمكن أن تتغير الخارطة البرلمانية بما يتنافى مع رغبة الناخبين، ويضرب بإرادتهم عرض الحائط، بما ينتقص من شرعية أي تشكيل برلماني وحكومي جديد قد يحل محل نواب التيار الصدري، الذي تصدر الانتخابات، ما يعني استمرار حالة الغضب في الشارع العراقي!
البعض يرى أن انسحاب كتلة التيار الصدري من البرلمان يوفر لها تأثيراً إضافياً كونها تحتكم إلى تأثيرها في الشارع العراقي مجدداً، ما يشكل عنصر ضغط على منافسيه الذين عرقلوا خططه لتشكيل حكومة ائتلافية، ولكن لا ضمانة لأن توفر أي انتخابات جديدة - في حال حدوثها أو تجاوز العقبات التي تحول دونها مثل الخلاف حول قانون الانتخابات وغير ذلك، الاستقرار الذي يحتاجه العراق وشعبه.
هناك من يرى كذلك أن الانسحاب يمثل مناورة تكتيكية للضغط على المنافسين، وأن العودة عن قرار الانسحاب واردة شريطة التوصل إلى تفاهم بشأن تشكيل الحكومة، ولكن هذا السيناريو يخضع لرؤية المنافسين وخططهم البديلة للتعامل مع الواقع السياسي المترتب على استقالة النواب «الصدريين».
ما يجب على جميع القوى والتيارات العراقية الانتباه إليه هو أن العراق لم يعد يتحمل هذا القدر من الشقاق السياسي، ولاسيما في ظل الظروف الدولية الراهنة، وأن من الصعب إبقاء هذا البلد الكبير رهينة تجاذبات داخلية يعكس الكثير منها إملاءات خارجية لا تستهدف سوى الإبقاء على نفوذها ودورها وتجاهل إرادة الشعب العراقي الذي احتج غير مرة في وجه العابثين والوكلاء والمتنطعين سياسياً.
وأياً كان الهدف من وراء استقالة «الصدريين» ومآلاتها، فإنها تضع العراق كله في وضع صعب ومعقد، وتضيف إلى أزماته بعداً جديداً يصعب التكهن بمآلاته، لاسيما في ظل عدم اتفاق أطياف السياسة العراقية على ضرورة النأي ببلادهم عن الجار الإيراني، الذي يعد سبباً رئيسياً في ما يحدث، لأنه لا يعقل الحفاظ على مصالح طرف خارجي مع التضحية بمصير الوطن نفسه!
العراق الذي حلم شعبه بدولة القانون، يستحق من الجميع الترفع عن الخلافات والاتفاق على مشتركات الحد الأدنى التي تضمن لبلدهم تجنب الفوضى والاضطرابات، ولن يتحقق ذلك بفرض الأمر الواقع من جانب أي طرف، ومحاولة القفز على نتائج صناديق الاقتراع عبر التفافات ومراوغات لن تؤدي بالأخير سوى إلى خسارة الجميع.
معضلة العراق تتشابه مع المعضلة اللبنانية في الأعراض والنتائج، وتتفق معها في مصدرها وأسبابها، حيث يبدو العامل الإيراني الغائب الحاضر في الحالتين بقوة، كما يبدو الاختلاف في الانقسام الحاصل داخل البيت الشيعي، وهو أيضاً ليس بعيداً عن تأثير طهران ورجالها، والوضع في السودان وليبيا واليمن وغيرها ليس ببعيد عن حال العراق ولبنان، فالنخب السياسية المتشرذمة والولاءات الخارجية والمصالح الشخصية تلعب الدور الأبرز في مفاقمة حالة الصراع السياسي داخل هذه الدول.
مشكلة بعض الدول العربية لا تكمن في الديمقراطية وصناديق الاقتراع، لأن هذه الآليات التي طالما طالب الكثيرون بها، باتت جزءاً من المشكلة وليس الحل، وهذه ليست دعوة لصرف النظر عن المسارات التشاورية كما قد يقفز البعض إلى مثل هذه الاستنتاجات، ولكنني أقصد أن أزمة هذه الدول أعمق من الآليات التي يفترض أن تؤتي حصادها في بيئة مهيأة لذلك، ومن ثم نجد الطائفية البغيضة تعرقل مخرجات صناديق الاقتراع، والمصالح والولاءات العابرة للوطنية تحول دون تشكيل حكومات تعكس رغبة الشعوب وإرادتها، ونجد أن من احتكم للصندوق لا يقبل بنتائجه! ما يعني أننا أمام حالة انسداد هي في الحقيقة نتاج ثقافة أحادية لا تؤمن بالديمقراطية سوى حين تحقق مصالحها وأهدافها، وتنقلب عليها حين تتنافر النتائج مع هذه المصالح، لذا فقد قيل إن الديمقراطية تحتاج إلى ديمقراطيين مؤمنين بسيادة أوطانهم ومدركين لقيمة الأوطان وضرورات حمايتها من أي تدخلات خارجية، فالممارسات السياسية المتحضرة لا تنحصر في قوائم مرشحين وصناديق اقتراع، بل في قناعات حقيقية متجذرة بحق الشعوب في اختيار من يمثلها، ولأن هذه القناعات غائبة تماماً، فإن المشهد يبدو عبثياً سواء تمثل ذلك في ثمانية أشهر لم يتمكن خلالها متصدرو الانتخابات من تشكيل حكومة في العراق، أو في اغتصاب ميليشيا للسلطة في صنعاء، أو تنافر حكومتين تتنازعان السلطة في طرابلس وبنغازي، ناهيك عن المشهد اللبناني الذي يموج بكل ألوان وأطياف العبثية السياسية!.