أجلس بجانب أبي وهو يرقد على السرير الأبيض بالعناية المركزّة منذ ما يقارب العام. أنظر إليه وقد أنهكه المرض وشلّ جميع أعضاء جسده حتى عجز عن الكلام، ولم يبق سوى نظرات عينيه التي يسمعني بها حديثه، والتي أفهم لغتها منذ صغري، وأجيبه: «سم» يا أبي.. إني أسمعك. تمرّ اللحظات في غرفة العناية المركزّة حيث لا أحد غيري وأبي، مكان نظيف هادئ لا مجال فيه لأي ضجيج، ولا صوت سوى بوح المشاعر النازفة ألماً، وحركة الأجهزة الطبية تقطع بين الحين والآخر صمت المكان. تدخل الممرضة مسرعة لتعطيه أدويته، ومن ثم يأتي الطبيب الذي يتابع الحالة، ويردّد عبارته اليومية (الحمد لله اليوم.. أحسن).
تمر اللحظات ومعها تمر مراحل حياتي في شريط من الذكريات الطويلة التي تبدو بلا نهاية، أتذكر لحظاتي مع والدي وأنا أرافقه.. كنت أركض خلفه محاولاً تقليل المسافة التي ترسمها خطواته الواسعة السريعة، وتتقاصر عنها خطواتي الصغيرة.
كثيراً ما كنت أسقط من التعب، وكنت أقول في نفسي: «عندما أكبر سأكون مثل أبي.. لا أتعب». أبي.. ما زلت أذكر فيك حنان الأب وحزمه المرتوي بالمحبة.. ذاك ما كان يزيدني تعلقاً بك. أذكر بكل وضوح لهفتي عندما رأيتك تطلُّ في إحدى المناسبات بعد غياب، وكيف تخليت عن اللعب مع أقراني الصغار لأقف أمام باب المجلس وأرى الحضور وهم يقفون ترحيباً بمقدمك وينادونك بـ(أبوعبدالله).. يا للفرح والفخر الذي ملأا قلبي يومها يا أبي! شريط الذكريات ينساب في الخاطر، فكيف أنسى حالي وأنا أتوضأ لصلاة العصر حين كنت أحدث نفسي عن شوقي لأبي الذي أطال السفر، وعندما حانت مني نظرة إلى المرآة، فجأة أراك تدخل علينا.. فتهتف كل خلية في قلبي : لقد عاد أبي.. لقد عاد أبي. كنت أقول إن أبي هو كل جزء مني، بل إنني أنا الجزء من ذلك الإنسان الذي أنهكه المرض، فبقي صامداً قوياً في الذاكرة.. يملأ صوته المكان، وينتشر عطره في كل زاوية، ويتوسّد دفء وجوده حنايا القلب والعقل ورحلة الحياة.
كم أحبك يا أبي.. سأكون مثلك يا أبي!