ليالي السبيعي
مر وقت طويل لم أزر محبرتي.. الجفاف كان يطغى على سيولة الحبر.
مساء يتلوه مساء ودمع أصفر وطريق طويل..
طويل.. ومرهق
كثيراً ما أتمنى أن تردني رسائل إنذار
قبل مرحلة الغياب الشاقة.. التي تتغشاني بين الحين والحين.
(كرهت نفسي) شعرت بحجم هذه الكلمة عندما يقولها الآخرون.. نعم كرهت نفسي..
عندما عجزت أن أختلي بنفسي وأتنفس ولو يوماً واحداً خلال فترة غيابي.
معظمنا يقضي جلَّ وقته في عمله حتى لو كان في بيته.. يكره الإنسان نفسه لأنه لا يعرفها، بل ويرهقها ولا يهمه أن يعرفها.. بينه وبينها قطيعة روحية فجّة.
لم نعد نعرف أرواحنا.. تعيش الروح في داخل أحدنا غريبة عنه وهو الفاعل والعامل الرئيسي لاستمرار الكراهية والغربة.
ربما لأنه لم يولها اهتمامه.. فالروح تحتاج للغذاء كالجسد تماماً، ومن هنا ينشأ صراع داخلي، تنشأ عنه أمراض جسدية ونفسية.. يدخل من خلالها مرحلة قد تطول وتقصر حسب تقبله من عدمه..
البعض منا يضحي بنفسه وماله وأسرته كي يصل إلى أقصى مراحل الكمال فيما أنه لا يعلم أنه يهلك نفسه ويدمرها.
أنا كذلك في مرحلة الغياب التي مررت بها تعلّمت الكثير والكثير من الدروس بعد أن واجهت الكثير من العقبات.
كنت كثيراً ما استشعر الأشياء بطريقتي الخاصة.. أراها بمنظوري.. كنت كثيراً ما أترجم هذه الرؤية برسائل خاصة من خلال وسائل تواصلي وكثيراً ما كانت تصلني ردود بالتقبل والرفض، لا يهمني أثر الرد بقدر ترك الأثر.
كثيراً ما كانت الكلمات تهتز على لوحة المفاتيح وأنا أدرك تماماً أنها ليست لوحة المفاتيح، بل هي يدي فوقع تلك الكلمات يؤثّر سلفاً عليّ قبل قرائي.. كل الجمل متصلة وقويه كما ترجمتها الآن..
إذا فالفتور في روحي التي كانت كثيراً ما تجود بصياغة الكلمات.
كثيراً ما اعتمد في اتصالي البشري على التعامل بالمِثل وليس بالروح، لأني أعلم تماماً أنه روحي لا أحد يشبهها ولا أحد يماثلها.. هو شعور وليس غروراً..
أتعلمون لماذا لأنني عندما أتألم اختزل ذلك الشعور في ألم روحي فقط! وليس ألم جسدي..
فالإنسان عندما يتألم يختزل الحياة بكل معانيها وحكاياتها وأيامها في ألم عضوي (يصفر، يبهت لونه، تختفي ابتسامته، تقل شهيته، وقد تشيب بعض الخصلات من شعره). وينسى أن الحياة أكبر بكثير من ألمه وأكبر بكثير من حزنه ووحدته.
عندما تألمت في الغياب كنت كثيراً ما أنام مبكراً.. نوم وليس هروباً..! كنت كثيراً ما أغوص في أعمالي وخططي ومشاريعي وذلك عاد علي بالتقدم والنفع..
كنت كثيراً ما ألجأ لأحبتي لأن لدي قناعة تامة أن الحزن مع الجماعة فرحة.. وأن وحدتي التي أعشقها ستخّرب كل مجرى حياتي.. اعتبرت الغياب والطرقات الوعرة والدمع الأصفر وعثاء سفر.
أتعوذ منها يومياً كي أنعم بالنجاة ممن قدّر لي هذا الغياب وتبعاته.
كنت كثيراً ما أتجمّل وأتحمّل ويحتاجني الصمت لأنني مؤمنة تماماً أنها فقط مرحلة غياب وسأعود.. سأعود حتماً كي أقرأ كثيراً وأشرب القهوة وأمشي على الطرقات وأغني لعبدالحليم وأطلب الوصل بعد الغياب.
أصبحت لا أقف على حافة التفاصيل الزائدة تركت التشبث بالماضي والراحلين.
تعلّمت أن أصبّر وأكبرّ.. وعندما يحاول الحنين اجتثاث دموعي أسقي شجيرات العليق كي تنثر زهرها الأبيض في دروبي.
إلى متى وأنا أشرب الغربة وأنا في وطني وبين أحبابي.. إلى متى والطفل المصنوع من حجر الخوف والوحدة يأكل أطرافي.
كل مصاعب الحياة ستنتهي.. وهذه الشوارع المكتظة بالضجيج والحوارات اللا متناهية والتسويف ستنتهي.
لا شيء غير الذي قلت سلفاً، علينا أن نتذكّر أن وجودنا حظ كبير للحياة.. وليس هيناً ولو بدا من حين لا آخر عادياً ومستهلكاً.. سيأتي علينا زمن لن نجد هذه الفرصه.. اغتنموا كل لحظاتكم.
فاصلة
تعود نغمات الموسيقى الناعمة تدخل المسامات بهدوء كحبات المطر الباردة، تنظر للسقف.. تغمض عينيها مثل الدمية ثم تنام بسلام.