مدخل: الحُلم والتغيّر إلى الأفضل هو أكثر الأشياء التي يتطلع إليها الإنسان في حياته والحلم في الحصول على أفضل النتائج المبهجة أمر متاح لكل إنسان مهما كانت ثقافة هذا الإنسان ومهما كانت إمكانياته المادية والبحثية في الوصل إلى مراده فيا ترى هل سينجح الباحثون في الوصول إلى الإنسان الكامل عقلياً وجسدياً وأخلاقياً من خلال تفعيل شفرة الوراثة المتدلية؟ هذا ما سنتعرف عليه من خلال هذا المقال.
يضم الجينوم البشري (الطاقم الوراثي البشري) في مجموعة كل الجينات الموجودة في خلايا البشر وقد أطلق عليه والتر جيلبرت حامل جائزة نوبل اسم «الكأس المقدسة لوراثة الإنسان» المفتاح إلى ما جعلنا بشراً, ما يعين إمكانياتنا حدودنا كأفراد (هوموسابينس) إن ما يجعلنا بشراً لا شمبانزي هو مجرد 1 % بين طاقمنا الوراثي والطاقم الوراثي للشمبانزي على أن هذا الفارق ليس بأكثر من تقدير عام عريض.إن جوهر الجينوم البشري وتعدد جوانبه أنما يكمن في تفصيلاته، في المعلومات المحدودة عن كل الجينات التي نمتلكها ويقدر عددها بما يتراوح ما بين50000-10000 جين. وعن كيف تُسهم هذه الجينات في وجود ذلك العدد الهائل الذي تلعبه (أو لا تلعبه) في الأمراض والتنامي والسلوك.
ومن المعلوم أن فكرة تربية أناس أفضل تنسب إلى أفلاطون، ما لم يكن قبله لكن الصيغة الحديثة اليوجينيا قد نشأت على يد فرانسيس جالتون, ابن خالة تشارلس داروين، وكان هو عالما مبرزاً، وفي أواخر القرن التاسع عشر اقترح جالتون أنه من الجائز أن نتمكن من تحسين الجنس البشري بنفس الطريقة التي يُربي بها النبات والحيوان باستخدام قانون مندل للوراثة وذلك بأخذ الجينات الحسنة في الإنسان وتنميتها واستبعاد الجينات السيئة مما يساعد مستقبلاً على القضاء على أمراض مزمنة ومنتشرة بين فئات أكثر فقراً كالسكر والأنيميا (فقر الدم) ولأن الإنسان أبطء في التكاثر من كائن فكان من الصعوبة بمكان إجراء هذه التجارب ومعرفة نتائجها سريعاً ومن هنا توجهت الأنظار إلى ذبابة الفاكهة التي تتكاثر سريعاً فتم إجراء التجارب وأظهرت نتائج طيبة ورغم ذلك ففي عام 1907 كان قد اتضح بشكل مقنع أن المندلية يمكن أن تفسر في الإنسان وراثة لون العين كما تفسر شذوذا موروثا قي الأيض يسمي البول الألكبتوني.
وفي العقود التالية اخذ عدد محدود من العلماء مهمة تعضيد البحث عن الكأس المقدسة. انجذب البعض منهم إلى تفهم وراثة الإنسان من أجلها ذاتها، بينما حركت آخرين علاقة هذه الوراثة بالطب على أن علاقتها باليوجينيا قد تكون هي التي جذبت معظم الباحثين اجتماعيا وشجعتهم وظيفياً.
واليوجينيا هي مجموعة الأفكار والأنشطة التي تهدف إلى تحسين نوعية جنس الإنسان عن طريق معالجة وراثته البيولوجية.
آراء جالتون
ذاعت آراء جالتون اليوجينية بين الناس بعد بداية هذا القرن، واكتسبت لها أتباعا كثيرين بالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا والكثير من غير هذه الدول. تشكل العمود الفقري للحركة من أناس من الطبقة الوسطي البيضاء والشريحة العليا منها, لاسيما جماعات المهنيين. ساند الحركة علمانيون بارزون وعلماء من الوراثيين على وجه الخصوص ممن وجدوا في علم التحسين الوراثي البشري طريقا إلى مكانة شعبية أو مصلحة خاصة.
أعلن اليوجينيون أنهم مهتمون بوقف التدهور الاجتماعي، وقد لاحظوا دلالات عنه صارخة في الانحلال الاجتماعي والسلوكي بالمجتمع الصناعي المدني مثلاً الجريمة، أحياء الفقراء القذرة، الأمراض المتفشية، انحلال رأوا أن أسبابه تكمن أساساً في البيولوجيا في (الدم) إذا استخدمنا المصطلح الشائع عن جوهر الوراثة في بداية هذا القرن، رأى البيولوجيون معتنقو اليوجينيا أنه من الضروري أن تُحلّل الجذور البيولوجية للتدهور الاجتماعي إذا كان لنا أن نستأصله، الأمر الذي جعل من دراسة وراثة الإنسان أمراً ضرورياً للبرنامج اليوجيني، فهم هؤلاء البيولوجيون اليوجينيا على أنها تطبيق لعلم الوراثة البشرية على المشاكل الاجتماعية, وتطوير هذه المعرفة لتصبح الفرع الرئيسي لعلم اليوجينيا وعلي ذلك فقد ضم برنامج الوراثة البشرية العلل الطبية، مثل مرض السكر أو الصرع ليس فقط بسبب أهميتها الذاتية، وإنما بسبب ثمنها الاجتماعي، ثمة جزء جوهري آخر من البرنامج كان يتألف من تحليل صفات زُعم أنها تُسهم في زيادة العبء الاجتماعي: صفات تتضمن الطبيعة المزاجية والسلوكية التي قد تكون السبب مثلاً في إدمان الكحوليات والبغاء والإجرام والفقر. وقد كان القصور الذهني موضوعا رئيسيا للتفحص وكان المصطلح الشائع له هو (ضعف العقل) وكثيراً ما كان يُحدد باختبارات الذكاء. وكان يفسر دائماً على أنه ضروب من السلوك الاجتماعي المنحط، وفي ديننا الحنيف نرى أنه يحذرنا من زواج الأقارب لما يترتب عليه من صفات وراثية ليست حميدة أهمها هزال في الجسم وضعف في التفكير أحياناً تؤدي إلى البلادة ففي الحديث. (اغتربوا وإلا تضووا) بمعنى (تضعفوا)
وقد أجرى قسم كبير من بحوث وراثة الإنسان، بل ربما معظمها بمعامل أنشئت لتطوير المعارف المفيدة يوجينيا. كان أشهر هذه المعاهد في العالم معمل جالتون لليوجينيا القومية بكلية الجامعة في لندن تحت إدارة البيولوجي كارل بيرسون عالم الإحصاء والعشائر ومكتب السجل اليوجيني.
نتائج الأبحاث
جمع الباحثون بهذه المعامل والمنتمون إليها بيانات تتعلق بوراثة الإنسان وذلك بفحص السجلات المرضَية أو بإجراء دراسات على العائلات الممتدة معتمدين كثيراً على رجال الحقل في بناء شجرة الأسلاف للصفات بعشائر مختارة مثلاً سكان مجتمع ريفي على أساس المقابلات الشخصية وفحص سجلات الأنساب. ثمة ملمح مهم وهام في علم اليوجينيا الألماني هو الدراسات على التوائم (والفكرة هنا هي أننا قد نكشف ما هو وراثي وما هو غير وراثي من الصفات, عن طريق تحليل أطفال متشابهين وراثيا أو متطابقين, رًبُّوا في بيئات مختلفة) وفي عام 1926 كان مكتب السجل اليوجيني قد جمع دراساته ومسوحه ما يقرب من 65 ألف صحيفة من مخطوطات التقارير الحقلية و30 ألف صحيفة من سجلات الصفات الخاصة و8500 قائمة من الصفات العائلية و1900سجل مطبوع من سجلات النسب وتاريخ المدن والسّير الشخصية وفي المقابل نرى كارل بيرسون، وهو عدو لدود للمندلية، أستطاع أن يقدر العمق الوراثي عن طريق حساب التلازمات بين الأقارب أو بين الأجيال بالنسبة لتكرار حدوث أمراض وعلل وخصائص مختلفة. كانت الدراسات الصادرة عن معمله نمطيا، تتفحص العلاقة بين بنية الجسم والذكاء، التشابه بين أبناء العمومة, أثر وظيفة الآباء على رفاهية الأبناء أو معدل الولادة. دور الوراثة في إدمان الكحوليات والسل وضعف النظر، على أن المنهج الذي ساد العلم اليوجيني في معظم المعامل لم يكن يهتم بالتلازمات وإنما بالتقييم المندلي تحليل البيانات المظهرية والعائلية لتفسير توارث تشكيلة من المحن المرضية والسلوك الاجتماعي وذلك في صيغة وراثية.