إن المتتبع للمشهد السعودي اليوم، وضمن سياق التحولات المتسارعة والمتتالية التي يعرفها المجتمع في الجزيرة العربية، لا بد من أن يسجل جملة ملاحظات:
أولاً: إن طبيعة هذه التحولات مرتبطة بأسباب ذاتية وموضوعية وعامة؛
ثانياً: إن الزمن السعودي اليوم زمن خاص، بقدر ما يتقاطع مع خطاب التغيير، بقدر ما يؤسس لذاكرة حية، ذاكرة من أجل المستقبل.
ثالثاً: توافق الدولة والمجتمع في إنتاج ثقافة جديدة، منسجمة ومتكاملة بين التحديات والرهانات؛
رابعاً: جرأة وشجاعة الدولة في صدمة الفكر المتشدد، بخلق آليات تشريعية وتنظيمية وسوسيولوجية، بديلة وقادرة على التأثير والتوجيه.
اعتباراً لهذه الملاحظات، يمكن تحليل هذا المشهد العام، بكثير من الحذر المنهجي، إنها مغامرة في قراءة ما يقع اليوم في المملكة العربية السعودية.
1- محاولة للفهم:
لا شك أن المملكة، خلال العقد الأخير، شهدت لحظات مفصلية في تاريخها الراهن، سواء على مستوى هيكلة بنية الدولة نفسها، أو على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولعل إستراتيجية رؤية 2030 إحدى أهم هذه اللحظات وأبرزها على الإطلاق، فهي من جهة؛ تقدم قراءة حقيقية، بشفافية ومصداقية، للوضع الراهن، ومن جهة أخرى؛ تقترح نموذجا تنمويا بديلا، يعتمد أساسا على ثلاثة محاور، وهي: « المجتمع الحيوي، الاقتصاد المزدهر و الوطن الطموح «. ولتحقيق هذا النموذج، وضعت برامج محددة في الزمان والمكان، ومنها: « برنامج صندوق الاستثمارات العامة؛ برنامج الإسكان؛ برنامج خدمة ضيوف الرحمن؛ برنامج الاستدامة المالية؛ برنامج التحول الوطني؛ برنامج تخصيص؛ برنامج تحول القطاع الصحي؛ برنامج تطوير القطاع المالي؛ برنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية «.
انطلاقا من هذه الرؤية الإستراتيجية، يتضح أن المملكة وضعت خطة طريق واضحة للانتقال من لحظة تاريخية إلى لحظة أخرى جديدة، تتداخل في بنياتها، بشكل مندمج ومتكامل، وحيوية المجتمع وتطور الاقتصاد ورغبة البلاد في التغيير. إنها معادلة مركبة، تقتضي بناء الإنسان، المحرك الأساسي لتفعيل هذا النموذج الجديد.
2- تحولات محسوبة:
إذا كانت رؤية 2030، نظريا وعمليا، ستضع المملكة في عمقها الاستراتيجي إقليميا ودوليا، لتلعب الدور الريادي، فإنها أيضا راهنت على المجتمع، باختلاف طبقاته وتعدده الثقافي، وذلك بوضع آليات جديدة، قد تبدو للبعض صادمة في المعنى والمبنى، وقد تبدو للبعض الآخر، طبيعية؛ وهي تتطلب تحولات ذهنية وثقافية تلائم عمق المحاور الكبرى لهذه الرؤية.
من هنا، تبرز أهمية رؤية وتوجهات وزارة الثقافة من خلال ثلاثة أهداف رئيسية هي: «الثقافة كنمط حياة؛ الثقافة من أجل النمو الاقتصادي؛ الثقافة من أجل تعزيز مكانة المملكة الدولية».
فالقطاع الثقافي هو القطاع الكفيل ببناء مواطن، يشارك في اختياراته الوجودية، ويساهم في تثمين تراثه، و ينتج تعبيراته الإبداعية، ويتفاعل مع التحولات العالمية.
وعلى هذا الأساس، سيتم مأسسة هذا القطاع، وبالتالي توفير الشروط الملائمة للإبداع والتفكير والمشاركة الفعلية في مختلف المنتوجات الثقافية. هكذا ستظهر إلى الوجود مؤسسات ثقافية وطنية تعنى باللغة العربية و الموسيقى والمسرح والفنون والمتاحف والكتاب؛ ناهيك عن تنظيم مهرجانات سينمائية وطنية ودولية و ملتقيات فلسفية وغيرها من التظاهرات الفنية، إلى جانب العناية بالمكتبات و توثيق التراث اللامادي و تشجيع فنون العيش وفنون الشارع.
إن التفكير في هكذا مبادرات ثقافية تأسيسية، من شأنه مأسسة قطاع الثقافة وفق تصور منهجي واضح، يضم التكوين والمتابعة والدعم والتشجيع، وبالتالي الوصول إلى المقاربة التشاركية، بمعنى الانفتاح على المجتمع المدني الفاعل في المجتمع.
3- التحديات:
لا شك أن مراحل التأسيس، على أهميتها الصادمة للثابت في المجتمع، تظل رهينة بالزمن وتحدياته وشروط إنتاجه. لذا تبدو التحديات لتحقيق الرؤية الإستراتيجية على المستوى الثقافي، وفي إطار تحليلنا، موزعة بين أسباب ذاتية وموضوعية وعامة، كيف ذلك؟
أ- أسباب ذاتية: مرتبطة بقدرة المجتمع السعودي على استيعاب صدمة التحولات المنشودة.
ومدى تفاعله مع المتغيرات المتتالية؛ وحرص أفراده على القيم المتوارثة والتي تشكل هوية وطنية وذاكرة جمعية في سياق التنوع والتعدد اللذين يطبعا حفريات الثقافة الوطنية.
ب- أسباب موضوعية: ذات العلاقة بدور الدولة في تمكين المجتمع من آليات مؤسساتية، تسمح
له بالتعبير عن وجوده، وتمنحه كذلك إمكانيات لوجيستية لممارسة مختلف أشكال التعبير الممكنة، لتحقيق فعل تملك تراثه من جهة؛ وامتلاك أسئلة الحوار والانفتاح من جهة أخرى.
ج. أسباب عامة: ذات البعد الإنساني أو العالمي، أو ما يفرضه العالم اليوم من تحديات تواصلية وتقنية وثقافية، لها من الإمكانيات القوية ما يجعلها مؤثرة على رغبات وانتظارات المواطن.
أعتقد بأن هذه الأسباب مجتمعة، قد تشكل تحديات حقيقية أمام الرؤية الاستشرافية للفعل الثقافي في المجتمع السعودي، لذا على قطاع الثقافة استحضار هذه التحديات، وإن كنت لا أشك، ولو للحظة واحدة، في قدرة المسؤولين على تجاوز مثل هذه الأسباب المشار إليها، بكثير من الوعي والتخطيط الموجه، لبلورة المشروع الثقافي الجديد، الذي يروم مأسسة القطاع أولا؛ ثم الرهان على المقاربة التشاركية ثانيا.
4- الرهانات:
أ- بناء الإنسان:
لا أود إزعاج القراء بالتعريفات المتعددة لمفهوم الثقافة، ولكن على الأقل من باب التذكير ليس إلا، حيث إن الثقافة في المرجعيات الدولية، وتحديدا تعريف اليونسكو هي « مجموعة العناصر المميزة ، الروحية والمادية، الثقافية والحسية، التي تميز مجتمعا أو مجموعة بشرية. وهي تضم علاوة على الفنون والآداب، أنماط الحياة، والحقوق الجوهرية للإنسان، ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات». ربما من حسن حظ القطاع الثقافي بالمملكة أن حداثة تأسيسه) 2 يونيو 2018 ( جعلت تصوره العام ) الفلسفة، الهيكلة والتدبير( مستحضرا ومتضمنا لمختلف مكونات هذا المفهوم الواسع للثقافة، سواء في بعده الإنثروبولوجي أو الجمالي، وهذا إضافة إلى مفاهيم فرعية جديدة للثقافة أضحت تفرض ذاتها اليوم مثل: الثقافة الحضرية، وثقافة الفضائيات والهواتف النقالة، والثقافة الالكترونية أو الرقمية وغيرها.
بل إن الملاحظ في بنيات هذا القطاع، أنه يضم إحدى عشرة هيئة، موزعة بين مختلف مكونات الثقافة الوطنية، وتعكس كل تجلياتها الإبداعية والثقافية، الشعبية منها والعالمة: فنون الطهي؛ الآداب والنشر والكتاب؛ المسرح والفنون الأدائية؛ الأزياء؛ الأفلام؛ الفنون البصرية؛ المتاحف؛ المكتبات؛ الموسيقى؛ فنون العمارة والتصميم. وهي مجالات متعددة، مرتبطة بأسئلة وقضايا: الهوية والانتماء؛ حقوق المواطن في الخدمات الثقافية؛ تثمين الذاكرة المحلية والوطنية؛ المثاقفة والانفتاح على الآخر.
يشكل بناء الإنسان، في نظرنا، إحدى تحديات رؤية 2030، وللقطاع الثقافي دور مركزي في ذلك. صحيح أن الوزارة المعنية بهذا القطاع لم تطلق رؤيتها وتوجهاتها إلا في 27 مارس 2019، وصحيح أيضا أن أربع سنوات إلى اليوم تقريبا، هي فترة زمنية قليلة لتجاوز التحديات بالمقارنة مع طبيعة القطاع ذاته التي تفرض بعض تجلياته زمنا طويلا، تحقيقا لما أشار إليه سمو وزير الثقافة، بدر بن عبد الله بن محمد بن فرحان آل سعود، في افتتاحية الموقع الإلكتروني للوزارة من كون رؤية المملكة 2030 « تنص على أن الثقافة من مقومات جودة الحياة». لكن بناء المواطن القادر على التفاعل والمبادرة والمساهمة في تنزيل برنامج التحول المنشود، يتطلب رؤية مركبة تقوم على المبادئ التالية:
* لا يمكن تحقيق تطور اقتصادي واجتماعي دون استحضار البعد الثقافي في السياسة العامة؛
* دور الدولة في توفير الشروط الأساسية للفعل الثقافي، ودعم الإبداع والمبدعين.
* استثمار « الرأسمال الثقافي» الذي تقدمه المملكة، وذلك لأجل خلق « تنمية مندمجة»، تتمثل في تطوير «الصناعات الثقافية الإبداعية».
* أن هذه التنمية المندمجة لا يمكن أن تتحقق، في تقديرنا، إلا في إطار « مشروع مجتمعي ديموقراطي» يجعل من «الإبداع» شعارا له في جميع الميادين، وعلى رأسها الثقافة والفن.
ب- الصناعات الثقافية والإبداعية:
يحيل مفهوم الصناعات الثقافية إلى مفاهيم عديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر: الاقتصاد الثقافي، ووسائل الإعلام، والثقافة الجماهيرية، والصناعات الإبداعية، وصناعة الثقافة والفنون، وصناعات المعرفة، والرأسمالية الثقافية، والاقتصاد الإبداعي، وغيرها.
تشمل الصناعات الثقافية والإبداعية ستة مجالات رئيسية، وهي:
* العالم الإبداعي: على الرغم من أن الإبداع خاصية عرفتها مختلف الحضارات والشعوب، فقد باتت اليوم ذات أهمية قصوى، بخاصة بعد تراجع الرأسمالية في اعتمادها على المواد الخام التقليدية، واتجاهها التدريجي نحو استغلال موارد أخرى، وفي مقدمتها الموارد الثقافية والرمزية.
* الهويات الخلاقة أو المبدعة: وتعني أن الثقافة حاملة لهوياتها المتعددة والمركبة والمفتوحة دوما على التطور والتغيير، مما يمنح للصناعات الثقافية والإبداعية إمكانيات تجديد نفسها باستمرار.
* الممارسات الثقافية: هي نتيجة التنوع الذي يسم الإبداع على مستوى الأشكال والمضامين، وبالتالي أصبح في عصر ما بعد الحداثة، يتجاوز التصنيفات التقليدية للثقافة و الفنون، ليدمج بين ثنائيات القديم والحديث، والمحترف والهاوي، والمؤدب والفظ.
* التعمير الثقافي: حيث أن المدن أضحت اليوم الشبكات التي تمر من خلالها كل أشكال الإبداع والتدفقات البشرية، المادية والرمزية. ومن هنا ازدهار ما يسمى بالمدن الإبداعية أو مدن المعرفة أو المدن الذكية، والاجتهاد نحو تحسين المجالات الترابية وتنشيطها الثقافي والفني.
* المشاريع الثقافية: التي تتوزع ما بين المشاريع البسيطة التي ينتجها المبدعون أو الصناعات الثقافية المحلية، وما تنتجه الشركات العالمية الكبرى لصناعات المضامين، وصولاً إلى ما تروجه وتمنحه الصناعات الكبرى للمعلومات والاتصال ) الانترنت، الهاتف النقال( من سلع وخدمات:
* الاقتصاد الإبداعي: هو المفهوم الذي يمكن أن نضع تحته كل المجالات المذكورة، على اعتبار أنه يشكل إبدالا ثقافيا جديدا، حل محل الإبدال القديم ) الاقتصادي والاجتماعي(، ليخلق اقتصادا آخر يتميز أساسا في اعتماده على الرأسمال غير المادي القائم على الإبداع.
بناء على هذه المحددات للصناعات الثقافية والإبداعية، سنلاحظ هذا الزخم من البرامج الثقافية والترفيهية في مختلف مناطق المملكة، مع التركيز على الرياض، كمركز سياسي وإداري، وأيضا باعتباره مختبرا لتجريب صيغ جديدة في التنشيط والتواصل مع فئات عريضة من المجتمع، والتي كان بعضها، إلى عهد قريب، يفضل السفر إلى خارج البلاد لممارسة اختياراته وحقه في الحياة، بل ستحاول هذه السياسة الجديدة استقطاب السياح الأجانب الراغبين في اكتشاف ما تزخر به المملكة من خصائص طبيعية ودينية و ثقافية وسوسيواقتصادية.
سنلاحظ أيضاً، تبعاً لهذا التوجه الرسمي، قدرة مهندسيه على تسويق المنتوج الثقافي، المادي واللامادي والطبيعي، بعقلانية واحترافية، مستأنسين بتجارب عالمية رائدة، ومستحضرين في الآن نفسه عمق الذاكرة الوطنية، باختلاف جغرافياتها وتنوع ثقافاتها وغنى رأسمالها الرمزي.
5- المقاربة التشاركية أفقا للتفكير:
لا يتسع المجال هنا للحديث عن مفهوم المقاربة التشاركية، على الأقل على مستوى تطوره التاريخي، لكن يمكن تعريف المشاركة على أنها منظومة تواصل بين مختلف الفاعلين، تساعد حاملي التغيير والفئات المجتمعية الأخرى على إيجاد نقطة التقاء، لبلورة رؤيا مشتركة للتغيير، سواء من حيث تصور مضمونه، برمجته، تفعيله ثم تقييم نتائجه.
لذا فالمقاربة التشاركية تمكن من إشراك المستفيدين قصد تحديد وتشخيص مشاكلهم الحقيقية؛ ومساهمة كل الأطراف الفاعلة في صياغة وتفعيل وتقييم المشاريع؛ و استثمار المعارف التقليدية؛ و جعل المشاريع أكثر مطابقة وملائمة للواقع.
انطلاقا من تعريف المقاربة التشاركية ومميزاتها، إلى أي حد يمكن الحديث عن مقاربة تشاركية
في مجال تدبير الشأن الثقافي السعودي؟ كيف ذلك؟ وبأية آليات؟
تقتضي المقاربة التشاركية في مجال تدبير الشأن الثقافي الوطني مبادئ موجهة:
• تدعيم الانتماء إلى الهوية.
• التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
• المحافظة على البيئة والحفاظ على الموارد الطبيعية.
• إشراك السكان في التسيير، واستشارتهم في تحديد مستقبل المجال الذي ينتمون إليه.
لكن مع أهمية هذه المبادئ، تبرز ثلاث تحديات كبرى أمام هذه المقاربة: التحدي الديموغرافي، التحدي الاقتصادي و التحدي البيئي.
هل ستساعد المقاربة التشاركية في معالجة إشكالية تدبير الشأن الثقافي، أو بالأحرى محاولة تجاوز المقاربات الكلاسيكية التي استنفذت إمكانياتها؟ أو على الأقل تصحيح الأعطاب السابقة وتوزيع المسؤوليات بين مختلف المتدخلين والفاعلين وعلى رأسهم المواطنين، من أجل تنمية شاملة مندمجة ومستمرة؟
تقتضي المقاربة التشاركية الأخذ بعين الاعتبار: طريقة تنظيم وإعداد المشروع المزمع تنفيذه؛ علاقة المشروع مع الشركاء المستفيدين(قطاع السياحة، الخواص، السكان...)؛ العمل مع هؤلاء الشركاء؛ ثم العمل لأجل الشركاء. وبهذا المعنى، يمكن الانفتاح على مختلف الفاعلين في مجال تدبير الشأن الثقافي، كالجمعيات المحلية والبلدية؛ والقطاعات الوزارية المعنية) وزارة الثقافة، وزارة التعليم، وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، وزارة البيئة والمياه والزراعة، وزارة التجارة، وزارة الإعلام، وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات، وزارة الحج والعمرة، وزارة الخارجية، وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان، وزارة الصناعة والثروة المعدنية، وزارة المالية، وزارة الاستثمار، وزارة الرياضة ووزارة السياحة...(والهيئات )الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس والجودة، الهيئة السعودية للملكية الفكرية، بنك التنمية الاجتماعية، الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع، الهيئة العامة للترفيه، الهيئة السعودية للمهندسين، هيئة كبار العلماء السعودية، الهيئة الملكية لمحافظة العلا، الهيئة الملكية للجبيل وينبع، هيئة حقوق الإنسان السعودية، الهيئة الملكية لمدينة الرياض، الهيئة العامة للمعارض والمؤتمرات، هيئة المدن والمناطق الاقتصادية الخاصة، هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات، الهيئة الملكية لمكة المكرمة والمشاعر المقدسة، الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة ... إلخ)، والقطاع الخاص.
6- استنتاجات:
عززت حكومة المملكة العربية السعودية من «التواصل المتبادل والحوار البنّاء بين الحكومة والمواطنين وقطاع الأعمال وجميع الأطراف الأخرى كشرط أساسي لتحقيق أهداف رؤية المملكة 2030»، وكذلك تعي أهمية « التفاعل والمشاركة الرقمية وأثرها كبقية قنوات التواصل الأخرى» التي تمنح للمواطن إمكانية «التعبير عن آرائه ومشاركة أفكاره واقتراحاته في مواضيع محددة مرتبطة بمجتمعنا»، بل أكثر من ذلك، لجأت الحكومة، باختلاف قطاعاتها، إلى إنشاء منصة إلكترونية موحدة والإشراف عليها لاستطلاع آراء العامة والجهات الحكومية، من خلال اقتراحات ومبادرات، قد تساعد على تجويد التشريعات والسياسات والإستراتيجيات والمبادرات والخدمات. هكذا إذن، تراهن الحكومة السعودية على المقاربة التشاركية، كآلية من آليات الممارسة الديمقراطية، أو بتعبيرها « المشاركة المجتمعية الالكترونية» .
على أهمية المشاركة المجتمعية الالكترونية التي تقترحها الحكومة السعودية، تبقى المقاربة التشاركية ذات أهمية على المستوى الواقعي و الفعلي، حيث إشراك المواطن في تدبير شأنه الثقافي يجب أن يكون، في نظرنا، إحدى رهانات قطاع الثقافة، وبخاصة في مجال تثمين التراث اللامادي والمادي والطبيعي. إن وجود جمعيات مواطنة ومبادرة، من شأنه الحفاظ على التراث الوطني والمساهمة، إلى جانب القطاع المسؤول، في تثمينه واستثماره في التنمية المحلية والجهوية والوطنية.
هناك تجارب إنسانية لامعة في هذا الباب، ينبغي التقاط كيفيات نجاحها، أو على الأقل الاستئناس ببعض آليات نجاحها، علما أن للمملكة خصوصياتها وفلسفتها في التصور والحياة، قمينة بإنجاز مقاربة تشاركية، مبنية على قيم الانتماء والوفاء للهوية الوطنية؛ ولمبادئ التفاعل والتواصل والتساؤل.
إن الثابت في التجربة السعودية اليوم ثقافياً، مكسب رمزي لا غنى عنه في إمكانية استثمار أبعاده القيمية )من القيم(، وتجلياته البنيوية في الذهنيات والممارسات. أما المتحول، فقد جسدته استراتيجيا رؤية 2030، ومعها رهانات القطاع الثقافي لتنزيل التصور الوطني المنشود، في أفق أن تصبح الثقافة «من مقومات جودة الحياة».
ما لاحظته خلال السنوات الأخيرة من دينامية ثقافية داخل المجال السعودي، يؤشر على اختيارات مفكر فيها، شكلا ومضمونا، بالرغم من التحديات المشار إليها سلفا، والتي تتطلب بعض الوقت لطبيعة الإصلاح الذي تريده الدولة، من جهة؛ ولقدرة المجتمع على التفاعل مع المبادرات الجدية والواقعية، من جهة أخرى.
أما الرهانات بشأن بناء الإنسان المواطن، فهي مشروعة في سياق التحولات الإقليمية والعالمية، بل هي مطلب استراتيجي للنهوض بالبلاد والعباد نحو أفق مغاير، بحذر شديد، لكنه يسير بخطى ثابتة ومتحولة في الآن نفسه، وعلى الجميع أن يركب القطار عبر محطاته المتعددة، شريطة احترام الزمن والفضاء العمومي والعيش المشترك.
** **
د. إبراهيم اغلان - كاتب مغربي