جابر بن محمد مدخلي
يتسع الأفق دومًا للأحرف المكتوبة من وفاء؛ لأنه لا ينتج إلا عن عاطفة جياشة؛ ولأن الوفاء لا يترهل مع تقادم الزمن كأي صفةٍ صلبةٍ تواجه العناء والأعمار والخرف.
واليوم.. اليوم فقط أتخذ قرارًا يجيء كأحد القرارات الثقافية التي ظلّت واقفةً أمامي بين حين وآخر لكونها تأخذ مني جهودًا مضاعفةً ومُضنية لإخراج مُنتج ثقافي يبقى أثره وملمسه. وقد كانت «الجزيرة الثقافية» الخارجة من حضن الأُم الإعلامية العملاقة «جريدة الجزيرة» التي سبقني إليها أقوام مضوا اليوم مخلّفين آثارهم، وكلماتهم، وتعابيرهم، ومعاركهم في سبيل المُنجز الثقافي.
اليوم فقط أستطيع أن أسيل مدادًا مالحًا على أوراق تحرسها عيني وستظل تفعل ذلك حتى النهاية.
لا أعلم كيف يمكنني الإتيان بالخطوات الأولى التي أوقفتني فيها، ولا أدري كيف أستعيدها لهول ما فيها من حكايةٍ تمنيت أن أرتّلها وأسقيها كي لا تذبُل عدا أنها ضمن مأخوذات القدر .. فقد أفضت إلى بارئها.
تلك الخُطى التي جاءت بالزميل العزيز الأستاذ محمد الرويلي إلى القاص الصديق محمد علي مدخلي ليحدثه بعدها عن رغبته في الوصول إلى من يعينه لإعداد ملف احتفائي عن شخصية الأديب الشاعر الراحل أحمد الحربي.
لم يستطع «الرويلي» يومها أن يُتمم كلماته إلا واختصر عليه القاص مدخلي بقوله: «الروائي جابر محمد مدخلي» هو أكثر من قد يعينك لإخراج ملف لائق؛ كونه لصيقه، وقرينه الدائم...» تنامت رغبة «الرويلي» في الوصول إلى من يحمل معه ملفًا عملاقًا عن شخصيةٍ عملاقةٍ كالحربي شاعرًا وإنسانًا ويقينًا وجوديًا كان من مسببات وطموح الثقافية في إتمام هذا الملف ومفتاحًا لبوابة عبوري لهذا الميقات. ملف بحاجة إلى شمولية وتمام بكل ما يتعلق بمسيرة وسيرة المُحتفى به. كانت الساعة العاشرة ليلاً حين نقلني القدر من «روائي» إلى «روائي وصحفي» دفعة واحدة، ونقلة عملية ميدانية وحسيّة بكل ما فيها من عبارة صحفي.لا تلك التي سبقت العاشرة مساءً بعدة ثوانٍ معدوداتٍ فما هي أمام الذي تلاها سوى اجتهادات وملفات وكتابات تُحصى على أنامل اليد. كان حديث «الرويلي» ليلتها مُقتضبًا ورشيقًا وشفافًا وبالمقابل كان جادًا وجميلاً ووفيًا وهو يتحدث عن شخصية الراحل «الحربي» ومن ضمن ما أتذكره قوله: «إن لم تستطع أن تعينني على تقديم ملف استثنائي، فبكل رجاء ومحبة أن تدلني على كل الناس الذين يمكنني الاستعانة بهم لإخراج هذا الملف، وهذا الطموح...»
لا أذكر أني قلتُ له غير عددٍ من الكلمات أستعيدها الآن: «آمل أن تمنحني الثقافية شرف إعداد هذا الملف والقيام عليه» وكان الملف الأول والعمل الصحفي الأول المكتمل بأركانه وعباراته، ومقالاته، وشخصياته، وحكايته –وكان استثنائيًا وطبق المواصفات حقًا- أردتُ أن أكافأني ببداية تجمعني بالحربي، وأردتُ لأن يكون بوابتي الكبرى التي لا تغيب عنها الشمس، وبالفعل خرج الملف وشرقت شمس الجمعة يومها مرتين. ومن يومها لم تغب شمس الجمعة عن سعادتي وسروري إلى أن أفلت شمس الحربي الذي كان يعيدني في كل مرةٍ إلى منجزٍ تحفيزيٍ كلما عاينت ذاكرتي به، ومعه، ومنه، وإليه ، وفيه.
تتالت بعدها الصفحات، فالملفات، فالمشروعات، فالموضوعات، والمطارحات، والنقاشات التي بدأت وكبُرت في ظل غفلتي عن حساب الزمن، وتواقيت العُمر. كان «الرويلي» زميلاً، وسيظل عونًا ويقينًا ينمو معي كل يوم. وكان حارس هذا الميقات الثقافي «الدكتور إبراهيم بن عبدالرحمن التركي» الفاتح لي هذا الباب على مصراعيه مُرحبًا ومهنئًا الثقافية بانضمامي منذ انتهائي من الملف ذاته. واستمررتُ في عنايتهما، وكنفهما. استمررتُ أقتلعُ كل فكرةٍ من عقلي أو تفكيري أو أوراقي لأجدها باليوم التالي ورقة ثقافية، أو نشرة ملؤها الطموح، ودافعها الانتماء الثقافي للمشهد الذي أعود له من جديد كأحد أبنائه بثلاث روايات. حاملاً إلى جواري مهنة الصحافة بعون التركي ومباركته، وتزكيته الدائمة لي في كل محفل، ومجلس، وحديث .. ولو بقيتُ في جزئية الكتابة عنه لاحتجت لكتابٍ كامل –ولعله يكون ذات يوم- ولعلي أوفر أمنياتي له كلها، وعباراتي جُلّها إلى أن يتحقق هذا التمني؛ لأنه حقيق، وحقيقة، ومستحق. ويمكنني الاستشهاد بعباراته الدائمة التي يكررها بين الزملاء حتى نطقها لي شخصيًا: «جابر منذ التقيت به وانضمّ إلينا بالثقافية وهو صحفي مكتمل .. بكل ما تعنيه مهنة الصحافة». ذاك عن شخصية «التركي» وأما «الرويلي» فهو جناحيّ الكبير الطيب القلب الذي لم يترك شوكةً اشتكتها أو رسالة مؤذية ، أو ردًا جارحًا بعد كل ملفٍ أو مادة تنحدر منّا بانتماء وحِرص فيحشرها البعض في زوايا ضيقة ويظل يشوّهها على الرغم من كامل الجهود التي خرجت به .. إلا ونزعها مني. فإليه يمكنني القول: إنك متحفٌ إعلامي تام، وصحفي عصرته السنوات فأنتج منها عملاً خالدًا بمهنيته ومصداقيته واجتهاداته الجميلة.
ركضت السنوات التي مضت ركضًا لم أحتس فيها غير شراب القلوب، ولم أتعرف إلا على كل جميل، وصنيع، وأحاديث، وصداقات كالشهد أنستني العناء، ورفعت عنيّ سعير السهر، وأعطتني المسافات التي بيني وبينهم حسًا جميلاً لا يمكن لأحدٍ أن يتذوقه ما لم يكن صحفيًا.
ولعلي هنا أتوقف وقفات على سبيل المثال لا الحصر:
- الأديب والناقد المعاصر محمد صالح الشنطي: كان أول الكبار الذين علّموني دروسًا مباشرةً في فن التواضع، وبساطة القول، وحنوّ الكبير على الصغير في ساحة الأدب.
- الأب الأدبي لكل كاتبٍ وناقدٍ سعودي الأديب الناقد الدكتور: عبدالله الغذامي، الذي يترجم معاني السمت في تعامله، وترقية العبارات العُليا لتكون بسيطة ببساط أحمدي حتى تشعر بعد إنهاء مهاتفته وكأنه يعرفك عن قُرب منذ عشرات السنين.
- الأكاديمي وعضو الشورى الدكتور حسن حجاب الحازمي يجيء ليُكرّس هذه الأدوار أيضًا، ويُكرمني بعد انتهاء ملفّه بخطاب شكرٍ وتقديرٍ كان بمثابة أعظم جوائزي الصحفية والإعلامية.
- الناقد القدير الكريم الواسع والغدق النقد والعِلم وقبلهما النقي الصدر والقلب الأستاذ محمد العباس الذي كان بحرًا عميقًا وسدًا نقديًا منيعًا –حقًا- بقدر ما كان ملفّه بالنسبة لي طموحًا صحفيًا إلا أنّه كان أصعب معادلة صحفية كونه احتاج مني إلى قراءات طويلة ثم سباحات عميقة في نهره العذب؛ كي أُخرج ما يمكنني إخراجه بشكلٍ لائق وصورة ملائمة لمكانته الإبداعية بمشهدنا الثقافي النقدي العربي.
- الأديب والروائي إبراهيم شحبي: الضلع السردي الأقوى بسردنا السعودي والخليجي، والخبير المكين بمواطن الجمال، وتقنية الاختيار الموضوعي. لقد شدّني كثيرًا مما جعلني أشدّ الرحال إليه حتى داره لإنجاز ملفه الصحفي.
- الروائي الرائع حجي جابر الذي نادتني إليه إبداعاته، ومشاعره المكتوبة بكل أعماله. لقد كان شهمًا في تقاربه معي لإنجاز مادة كاملة عن تجربته يتضمنها حوار. إنه قدوة سردية عربية علينا أن ندرس ونُدّرِس طريقته في التعامل فنيًا، وحسيًا، وإنسانياً، وإبداعيًا.
- الروائي الشاب عبدالله البصيّص، الذي قرأته مرتين مرةً وأنا قارئ مهمتي تنتهي عند الانتهاء من قراءة أعماله الجميلة، وأخرى قرأته وأنا مسؤول عن كل سؤالٍ سأضمّنه لحواري معه؛ لأنه سيدخل عندي ضمن ذاكرة الغد وتاريخي الصحفي، فشكرًا له وللميقات الذي جمعني بقلبه الرائع، وأدبه العميق، وخلقه السامي.
- شكري المبخوت، محمد القاضي، علي عبدالعزيز الشبعان هؤلاء الذين يمثلون بالنسبة لي مثلثًا تونسيًا مهمًا: للروائي، والناقد التاريخي، والمُفكر الجديد .. إنهم من أجمل مصادفاتي الصحفية العميقة العالقة بصدري.
الأسماء كثيرة من الشعراء، والروائيين، والنقاد .. ووالله لو كان الأمر بيدي لكتبتُ مُجلدًا كاملاً عن كل فردٍ بموقفه الذي تحفظه الذاكرة لجماله، ورقيّه، وإنسانيته، وأعطياته من سلامة القلب والقُرب .. وإن مشاهدنا الثقافية: السعودي، والخليجي، والعربي اليوم لفي أفضل حالاتها، ويمنحك فيها الأدباء سعة بالهم، ويقرّبونك منهم كما لو أنهم يعرفونك منذ زمن. فلكل من التقيته بمادةٍ صحفيةٍ عبر ميقات الثقافية الجميل –هذا- وكل الذين اعتذروا عن إجراء حوارٍ صحفي، أو وصلتهم محاوري ولم تسعفهم ظروفهم لإكمالها معي -فإنني اليوم وقبل اليوم-وبكل حب وطهر وود التمست لهم غيابيًا كل الاعتذارات وقدّرت ما هم فيه من انشغالات، وما هم عليه من اشتغالات وأزيد على ذلك أن أبعث لجميعهم عبر هذه الوثيقة من أعماق قلبي تحية وأدعية عساها تصلهم وهم يرفلون بثياب الصحة والعافية والسعادة والنجاحات.
وأخيرًا للطبيبة الزميلة «أثير الدعباس» بملفها الابتكاري الذي شاركتني إياه «المرأة بين ولادتين: الإنجاب والإبداع» الشكر الوافر .. لها ولكل الفنانات التشكيليات، ولكل كاتبة أعانتنا على إخراج هذه الملفات العميقة بما فيها من خصوصية بالمرأة وحدها للحد الذي شعرتُ فيه بأنني رجلٌ وحيدٌ بين قبيلةٍ من النساء .. لقد كان جُهدًا يستحق أن أختتم به وقفاتي المثالية لا الحصرية هذه.
ولعلي أغلق بوابة هذا الميقات بعباراتٍ تخصني وحدي تعلمتها طوال هذه المسيرة التي آمل أن تحملني لميقاتٍ آخر أصيرُ إليه لأكمل خدمتي لمشاهدي الثقافية العزيزة على قلبي: السعودي، والخليجي، والعربي الذي أنتمي إليه بكل حُب، عباراتٍ أو مقولاتٍ، أو اعترافات .. لا أعلم ماذا أطلق عليها:
- لم أكن صحفيًا قبل الثقافية إلا لفافًا وسأنسب الفضل بعد الله لمجلة الجزيرة الثقافية التي دخلتها روائيًا وأكتب لها اليوم وأنا روائي وصحفي.
- كنتُ أنوي أن أستخدم لغةً مختلفةً في ملفاتي وموضوعاتي الصحفية ولكنني قررت أن أسير على المنوال ذاته الذي آمنت به ذات حين بأنّ اللغة، والمعرفة الصحفية وحدها التي يجب أن تتجدد وأما أركان العمل الصحفي فلا يمكنك التغيير فيها وإن جددتها فستعود مع الوقت إلى هويتها الأصيلة الأولى.
- تمنيتُ كثيرًا أن أنهي مئات الحوارات، ومئات الملفات الاحتفائية، ومئات مئات من كل إبداع صحفي، وأن أقدّم كل الكُتّاب والكاتبات عدا أني-أتوقف اليوم ولو قليلاً- لأعود ذات وقت ولو بميقاتٍ آخر؛ لإكمال خدمة أدبنا العربي بمبدعيه ومبدعاته؛ محققًا بذلك أمنيتي هذه ولو بعد حين.
- إذا ما أردت أن تكون صحفيًا ذات يوم فكن صادقًا ومُخلصًا في تقديم من يستحق ولا تهضم حق مبدعٍ ما دمتَ أشعرته بأهميته.
- على مشاهدنا الثقافية: السعودي، والخليجي، والعربي أن تحتفي برواد آدابها؛ لأنهم بذلوا سنوات عمرهم وأزهقوها لأجل الإبداع ولم يخرج منه بعضهم –للأسف- إلا بالنكران والنسيان، وسوء الجميل. وبالمقابل عليهم ألا يهملوا نقل مشهدهم الثقافي لأجيال جديدة وألا يربطوها بالأسبقين الأولين بجميع موادهم الصحفية بل يقدمون جيلاً جديدًا متوازيًا مع إظهارهم لجيل الرواد، والذين يلونهم...
وإلى اللقاء ، إلى لقاء ...
** **
- روائي وصحفي
j.madkhali2009@gmail.com