د. إبراهيم بن محمد الشتوي
عندما نعود إلى الأدب العربي القديم، نجد من الآثار الأدبية التي توارثتها الأجيال، ويوصي الأساتذة تلاميذهم بقراءتها، والكتابة على منوالها كتاب «كليلة ودمنة». وهو الكتاب الذي استقر رأي أغلب الدارسين على أنه مترجم عن الفارسية التي ترجمته بدورها عن الهندية. بل لا يتوقف الشأن في هذا الكتاب على القراءة، والتواصي، بل تجاوزه إلى الكتابة على منواله، ونظمه في أبيات يحفظها الشداة ويقرؤها المحبون.
ولو عدنا إلى النظر إلى الكتاب في التراث العربي قديمه وحديثه، لما وجدنا اعتباره إلا كتاباً أصيلاً في الأدب العربي، واحداً من عيونه التي تنسب إلى ابن المقفع نسب المنشئ المبتدئ، إلى الحد الذي صار بعض الدارسين يشك في حكاية ترجمة الكتاب عن الفارسية أو الهندية، ويرى أن ابن المقفع سلك به هذا المسلك رغبة في إنفاقه لدى القراء، وإشهاره بينهم، خاصة إذا قارنا ذلك بحركة الرواية التي كانت رائجة السوق في زمن كتابة الكتاب وهو القرن الثاني الهجري، حيث كان الرواة والإخباريون يمتهنون الرواية والنقل عن العرب الأقحاح القدماء، ويتكسبون بها، فرأى ابن المقفع أن ينقل شيئاً عن الفرس آبائه وهو المعروف بالتعصب لهم، ويقدمه بوصفه منافساً لما ينقل عن الأعراب الخلص.
وعلى طريقة بعض الرواة الذين يصنعون الأشعار وينحلونها العرب، يمكن أن يعد كتاب ابن المقفع هذا مما نحله هو أيضاً آباءه الفرس ومن يظاهرهم من الهنود، وإن كنا سنميل هنا إلى القول السائد القائل بأنه قد ترجمها عن أصول معروفة لدى الفرس.
والمهم لدينا، أن هذا الكتاب بالرغم من اشتهار حكاية نشأته، وأصله، فإن القدماء تلقوه بوصفه عملاً أدبياً عربياً أصيلاً، ولم ينظروا إلى أصله الفارسي أو الهندي أو لم يأخذوا أصله بالاعتبار، واكتفوا بالنسخة العربية التي بين أيديهم، جاعلينها أصلاً للنص يعودون إليه.
قد يدفعنا هذا إلى الحديث عن الترجمة، هل هي حرفية أو بالمعنى، أو أنها تعمد إلى المعنى العام ثم تصوغ العمل أجمع بما يتناسب مع الثقافة والبيئة الاجتماعية في اللغة المنقول إليها، كما قيل عن الترجمات الأدبية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كترجمات المنفلوطي وحافظ إبراهيم والترجمات القديمة لكتب أرسطو التي قام بها إسحاق بن حنين ومتى بن يونس.
وهو الحديث الذي يوصلنا بعد ذلك إلى العلاقة بين النص الأصلي في لغته الأولى، والنص المترجم في اللغة الجديدة، هذه العلاقة التي يصفها بعض الدارسين بأنها «خيانة»، بناء على أن الكاتب لا يستطيع أن يقدم النص الأصلي كما هو، وإنما لا بد أن يكون هناك فارق بين النصين، هذا الفارق قد يكون ناتجاً عن مهارة المترجم ونمط الترجمة التي اعتمدها، وقد يكون ناتجاً عن اللغة المستعملة في الترجمة، وقد يكون ناتجاً عن طبيعة النص المترجم، وإمكانية نقله المتعددة، فيكون حمال أوجه ما يعني أن الجملة فيه تدل على أكثر من معنى، وهو ما يعني استحالة نقل الجملة كما هي لاختلاف اللغات وطرائق تعبيرها ما يعني أن نقل الجملة الواحدة ينبغي أن يتم بأكثر من جملة إما بطريقة العطف أو التخيير أو الهوامش.
هذه الاستحالة هي التي جعلت بعض الدارسين يعدون الترجمة ضرباً من الخيانة، لأنها لا يمكن أن تقدم النص الأصلي كما هو، وبغض النظر عن مقدار الفارق بين النصين الذي يمكن أن تحدد من خلاله مقدار ما يمكن أن يسمى «الخيانة»، فإن هذا المقدار الذي يوصف بأنه «خيانة»، هو الذي يمنح النص المترجم الجديد خصوصيته في اللغة المنقول إليها وأصالته، إذ يؤدي إلى أن يتصف النص الأصلي بجوهر اللغة المترجم إليها، وذلك أنه يجعله نسخة مستقلة عن النص الأصلي، ويمكن من إمكانية قراءته وفهمه بصورة مختلفة، أو بعبارة أخرى يمكن أن نقول: إنه إضافة فكرية إلى النص الأصلي، وهذا يجعلنا نقول: إن كل ترجمة تمثل نسخة جديدة للنص، بمعنى أن كل ترجمة تعني كتابة جديدة للنص الأصلي تظهره في اللغة الجديدة.
وهذا قد يمثل نوعاً من الانفصال عن النص الأصلي بوصفه قد أخذ بعداً جديداً أو ثوباً جديداً في اللغة الجديدة، إلا أن كونه يحمل عنوانه الأول، واسم المؤلف يجعله ترجمة، وهذا يدفعنا إلى البحث عن معنى كلمة «ترجمة»، بمعنى أنها نسخة معدلة من جهة اللغة، وما ينتج عن هذا التعديل من تحول في النص، بمعنى أن هذه الإضافات التي تنضاف إلى النص بسبب هذه الإجراءات لا تعد إنتاج نص جديد منفصل عن النص الأول، وإنما تعني تحويله من لغة وثقافة إلى لغة وثقافة بكل ما تتطلبه عملية النقل من لوازم، ويصاحبها من ظروف أكثر من أن تعني النقل الدقيق والأمين للنص إلى لغة أخرى.