د. شاهر النهاري
عين زرقاء، وبشرة بيضاء، وشعر ذهبي، هذه هي صفات المستشرق، الذي كان ينذر جزءا من حياته ليرحل بعيدا عن دولته، ويذهب ليجول في صحاري ومدن وأرياف الشرق السحري، بأساطيره، وكنوزه، وتراثه، وكميات الجهل، التي كانت تعم الشعوب والمجتمعات، وتجعل من هذا القادم المختلف العارف، أيقونة نادرة غريبة متكاملة لم يكن من الممكن أن يتم تفصيلها، أو تشبيهها بما اعتادوا عليه، فسمي بتخالط اللغات: الخواجة.
وكما جاء في قواميس اللغات، فإن خواجة كان اسم أسرة فارسية، معناها في الأصل: السيد، المحترم.
ويلفظها اللسان الفارسي تبسيطا خاجه، وبعد وصولها للعرب تم التصرف فيها لتتكون من جديد: خاجة، خاجا، خَواَاجه، خُجا، خوجة. ومع الوقت أصبح الاسم يطلق على مُجيد الصنعة المستغربة، مثل مُعلم الكتّاب، ومربي الأبناء، والأستاذ.
ثم دخل المعنى إلى قصور الخلفاء والأمراء على شكل مُعلم للأطفال، والذي لضرورته، قام بعض الملوك بخصيه، خوفا على الأطفال.
ولكن وبين المجتمعات الشعبية، ظل مسمى الخواجة يرتقي مع الزمن، حتى أصبح صفة احترام وتمييز وتعزيز، فكان الكثير من مجتمعات العرب، يصف المبدع المبتكر، أو العارف المتعلم، أو صاحب الحرفة المتقنة، أو الشخص الأنيق في ذاته ومظهره، أو كثير الاحترام والذوق، بكلمة خواجة: روح يا شيخ، والله إنك خواجة!
ونصل للمفهوم الحالي للخواجة، فنجد كثيرا من ثقافات العرب، مهما تعلمت وتقدمت ما زالت تتعامل مع ذلك المسمى بنفس القيمة القديمة والتميز، نزولا عند بعض الصفات التراكمية، والتي ظلت تتوسع، فكل من يأتي من الغرب، خصوصا لو كان أبيض اللون أزرق العينين وكان شعره ذهبي خواجة، في مفهوم الأغلبية العظمى، وحتى ولو كان الإبداع غير ملموس، فيكفي تلك الصفات الجسدية حتى يحصل على اللقب.
وقد أضيف لذلك المفهوم كل من يعتبر أعلى منزلة في العلم والعلوم، فنجد الياباني الفائق الذكاء خواجة، والصيني المبدع في التقنية كذلك، والكوري الذي يقوم بأعمال جسدية عنيفة أو مدهشة يعجز عن القيام بها عصبة من الرجال خواجة.
بعض اللغات الأجنبية تعلمناها، وأصبحنا نجيدها، مثل الإنجليزية التي أصبحت لغة عالمية، ولكنا نظل أمام بعض اللغات الأخرى قليلة الاستخدام بيننا عاجزين، مهما حاولنا، فيظل عندنا صاحب اللغة الفرنسية خواجة، وكذلك الهولندية، والأرجنتينية وغيرهما، بينما لا يمكن أن نسمي صاحب اللغة الإفريقية أو الهندي خواجة، لتناقض الهيئة عن المعتاد.
الاختيار يظل بيننا قاصرا، ويصب دوما في جانب تعظيم الخواجة، إلا ما ندر، فعندما نحتاج طبيبا أو مهندسا أو حرفيا نبحث عن خواجة. وحتى في الاختيار البسيط بين بائع وبائع نختار الخواجة لشعورنا أننا من خلاله سنعرف الأكثر، ونحصل على الأفضل بثقة ومصداقية، في الغالب.
الخواجة مفهوم مطاطي، لتراكم قديم ما زال صلبا في جوارير الذكريات، وهو يحتوي على خصال التميز، ويتم تعظيمه ولو عن طريق المزاح بها، وبتناقض شديد مع من يحسن صنعته، وهو من أهل الدار، أو من الجهات التي ينظر لها بعنصرية شديدة، لجنسيات عربية، وآسيوية وإفريقية، لهم دوما المسميات المحبطة، عفريت، جني، مسحور، ملموس، مأخوذ، وغيرها من صفات التقليل والتهوين، والتحبيط.
الخواجة في مفهومنا لا يكذب، ولا يسوف، ولا يعطي معلومة ناقصة، ويحترم الوقت، وكم يعتذر ببساطة وبشجاعة، ويقول لا أعرف، والخواجة لا يؤلف المعاني من مخيلته، ولا يخلط المعرفة بالوهم والأساطير، ولا يخضع معلومته للمسلمات المتراكمة دون بحث وتصنيف وتأكيد، بل إنه يعتمد على أدق المصادر وأكثرها مصداقية وتوسط، لذلك فإن الثقة تبقى مرهونة بوجوده، وكلمته، حتى أننا نحسب ثقافة الفرد بين المجتمعات على قدر قدرته على التواصل مع الخواجة، وتتبع رؤيته ومخططاته، التي لا تنزل الأرض حسب مفهومنا.
حال يصور قدر غالبية شعوب العالم العربي التي تاهت طويلا بين الجهل، والاتكالية، والبعد عن العمل الابتكاري والحرفي والتوغل في علوم الفنون والاختراعات ما يجعلنا حتى في أحسن أحوالنا، ودون وعي، نبحث دوما عن رأي خواجة، ونعطيه أضعاف حقه مقارنة بمن يوازونه في العلم والمعرفة والعمل.
كل مؤسسة كبيرة، وكل إدارة لا بد أن يوجد فيها من ينادى عليه، ولو مزاحا، بالخواجة، ومهما عرق الشباب المحلي، وتحركت الخطط، وبادرت، وأبدعت، إلا أنها تظل رهينة، لقيادة تأتي مستشرقة من خواجة، أو على أقل تقدير، نيل شهادة صلاحية خواجيه لما يتم بيننا من عمل ومن فكر ومن إرادة.
عقدة! نعم إنها عقدة، نتحايل على واقعها، ورغم أن بعض أصحاب الكراسي بيننا يظلون يدعون وينفون، ويشتمون في الظهر، ويُكذبون وجود أي أهمية للخواجة.
أما الخواجة، فهو سعيد بحيثيات ما يتحصل عليه، حتى ولو كان مجرد كيان غربي، قليل العلم، كثير الادعاء، وحتى لو ثبت أنه يجر الكيان للهاوية، وأنه حريص على مراتب خواجيته، فلا يرضى أن يتحرر العقل الشرقي منه، وأنه ما زال يتعامل مع الموجود بدهشته، وكأنه مغامر في رحلة صحراوية، لجمع بعض الدلائل، على وجود أثر.
العقدة موجودة، حتى وإن حاولنا القفز عليها، وتغيير مسماها، لمسميات خبير، أخصائي، أو مستشار، أو مشرف، ولكن المفهوم النوعي يظل جليا، ودون أن يكون هنالك نوايا مجتمعية على تبديد المسمى، والمفهوم، وصنع أيقونات محلية من بيننا، تستحق المكانة، وتأدية وظيفة ومفهوم الخواجة، ليس من جوانب القرب والمظاهر والكذب، ولكن بالأداء العلمي والعملي الصادق.
الظروف الحياتية في الشرق معقدة، ويندر أن يأتي من يفكر كالخواجة، وحتى لو فعل ذلك، فهل سيجد الأمور ميسرة له، ليتحرك بحرية فكرية، وتواضع، ومصداقية، وهل سيجد من حوله يتفهمون أنه غير مضطر لما تفرضه أمور الشرق عليه، من خوف وولاء، ومن تردد، ومجاملة، ونفاق، وبحث عن رفع قيمة عمله بأكثر مما هو، وأنه في النهاية، إن قرر أن يكون عين التميز، دون الاستعانة بخواجة.
أختم بحثي هذا بمثال قد يغضب الكثير، وهو العالم المصري زويل، والذي سار مع الخواجة، حتى بلغ مبلغا لم يكن ليصله ولو بعد مئة سنة، لو بقي في مجتمعاتنا الشرقية، التي تقدس معنى الخواجة، ولا تستغني عنه، ولا تستطيع بلوغه، إلا به، وكيف تم تحويله بعدها من عالم، لرجل صوالين وطق حنك.
وكم بيننا من زويل، ولكنا نعرف مدى خوفهم من المستقبل، فيظلون يبحثون عن المكانة التي سرعان ما تزول، ويتحولون لكنز الأموال، ووضع رجل فوق رجل، ولف أناملهم بحرير نسيه بيننا الخواجة.