سهام القحطاني
«يُسمعني حين يراقصني.. كلمات ليست كالكلمات.. يأخذني من تحت ذراعي.. يزرعني في إحدى الغيمات.. كلمات تقلب تاريخي.. تجعلني امرأة في لحظات.. يبني لي قصراً من وهم.. لا أسكن فيه سوى لحظات.. وأعود.. وأعود لطاولتي.. لا شيء معي.. إلا كلمات»، نزار قباني.
هل حرَّر نزار قباني المرأة من قيودها التاريخية،أو أنه شدّ وثاق تلك القيود بعد أن بدّل سلاسل التاريخ بورد التحرّر وياسمين النهضة لتكتشف المرأة نهاية الأمر بأنه لم يمنحها سوى وهم من كلمات؟
ولا يمكن لأحد أن يُنكر أن «المرأة» هي صاحبة الفضل الأكبر على نزار قباني في شهرته العربية، تلك الشهرة التي بناها على أجساد النساء وخرائط أنوثتهن.
«يا سيدتي.. أنت خلاصة كل الشعر.. ووردة كل الحريات.. يكفي أن أتهجى اسمك.. حتى أصبح ملك الشعر.. وفرعون الكلمات.. يكفي أن تعشقني امرأة مثلك.. حتى أدخل كتب التاريخ.. وتُرفع من أجلي الرايات»-نزار قباني-
استعبد نزار قباني نساءه الشعريات بطريقته الخاصة فهفت إليه قلوب المراهقات والناضجات حتى تكاد دواوينه الشعرية أن تكون رفيقة وسادة كل امرأة عربية.
لقد عرف نزار قباني مفاتيح المرأة وهي معرفة تظل أمامها في حيرة فهل هي قدرة أو موهبة أو خبرة.
تواكبت قصائد نزار قباني مع إرهاصات الحركة التحررية والنسوية للمرأة العربية مما جعل هذه القصائد قائداً خفياً من قيادات تلك الحركة فكانت بمثابة محرر معنوي وثقافي في ذلك الوقت ومحفزّ على التمرد.
«كوني امرأة خطرة.. إنك لست بقايا شجرة.. أحكي شيئا.. قولي شيئا.. إن فروعك ليست خشبة.. إن جذورك ليست حطبا.. كوني رعدا.. برقا.. رفضا.. كوني غضبا.. كوني بشراً يا سيدتي.. كوني الأرض.. وكوني الثمرة»-نزار قباني-
أحبت المرأة العربية شعر نزار قباني لأنه أحاطها بكلمات قلبت تاريخها وإن كانت مجرد كلمات من ورد يذبل بعد حين، ومن ياسمين يجف أريجه على أرصفة النوافذ وأعناق المزهريات فيصبحان ماضياً قديماً وذكريات لجمال منتهي الصلاحية.
ولو تأملنا السيرة التاريخية للشعر العربي سنلاحظ أن المرأة كانت تتحرك على هامش قصائد الشعراء حتى في قصائد الغزل التي اعتمدت على تسليط الضوء على المهارة الفنية للشاعر أكثر من قيمة المرأة كونها بطلة تلك القصائد على الاعتبار إضافة إلى عقد النسق الثقافي.
لكن الأمر كان مختلفاً عند نزار قباني؛ فقد مثّلت المرأة دور البطولة في قصائده، بطولة لا تخلو حيناً من استغلالها لمصلحته ليحصل من خلالها الشهرة والتمرد على المجتمع، وهذه نقطة مهمة عند المثقف العربي.
إن إمكانية «التمرد» هي إمكانية «أوسع» عند المرأة من الرجل؛ بحكم أن كل شيء للرجل متاح فلا قيود ولا حواجز، في حين أن العكس صحيح عند المرأة فهي محاطة بقيود تاريخية وهو ما يجعل القفز عليها وصفاً للتمرد.
فالمرأة تتمرد من خلال رفض قيودها التاريخية، في حين الرجل يتمرد من خلال المرأة، فنزار قباني شاعر ثوري متمرد لأنه حارب «بسيف المرأة».
لكن هذه الحرب هل كانت لمصلحة المرأة، أو هي هندسة «الحرملك» بصورة مختلفة؟
وهو سؤال يدفعنا إلى البحث عن طبيعة «هوية النساء» اللائي مثلن دور البطولة في قصائد نزار قباني.
لا شك أن لنساء نزار قباني الشعريات مواصفات خاصة منحوتة من نماذج عصر النهضة والانفتاح التي عاشها نزار قباني، ولذا لا نندهش بأن «جسد المرأة» سواء في ماديته أو رمزيته الممثل الأول لنساء نزار قباني.
«فامرأة تمثال بجماليون في دلالته الجمالية المطلقة هي بطلت قصائده،»لست معمارياً شهيراً.. ولا نحاتاً من نحاتي عصر النهضة.. وليس لدي تاريخ طويل مع الرخام.. ولكنني أود أن أذكرك بما فعلته يداي لصياغة جسدك الجميل.. وتزيّنه بالأزهار.. والنجوم.. والقصائد» -نزار قباني-
وهذا الإصرار على «المثالية الجمالية» كان يعزِّز «التمييز» الشكلي عنده باستبعاد النموذج المعاكس لتلك الرمزية المثالية؛ أي المرأة «غير الجميلة» التي لا نجد لها أي صوت أو حضور في قصائده.
ومن منطلق المثالية البجماليونية للمرأة» دائماً ما يربط نزار قباني تلك المثالية «بالأنوثة الطاغية» للمرأة من خلال ما يقدمه من تفاصيل جغرافيتها الجسدية، وهي جغرافية يبدو أن نزار صممها من خلال «نموذج أنثى هوليوود» طاغية الأنوثة المتحرّرة من أي ضوابط.
« ومن عادتي.. أن أحرك نهر الأنوثة حيث أشاء.. وأوقف مجراه.. حيث أشاء -نزار قباني-
ومن ذات المنطلق يمارس نزار قباني الشاعر سلطويته الذكورية بصورة صارخة من خلال تحريكه لأنوثة المرأة من خلال استعمار صوتها، فهو يظّل عرّابها المحرّض لكسر قيودها التاريخية من خلال رؤيته هو، تلك الرؤية التي تغشى رؤيتها وموقفها.
حرية المرأة التي رفع رايتها نزار قباني لنسائه الشعريات هي رؤية جسدية، التي قد تبدو للوهلة الأولى انعتاقاً من كهف التاريخ وطقوس الحرملك، لكن ما إن تقترب حتى تجد أن الانعتاق وهم وأن الكهف ما زال حاضراً بدلالاته المختلفة وطقوس الحرملك باقية بعلاماته المختلفة.
«يا سيدي.. أخاف أن أقول ما لدي من أشياء.. أن تحترق السماء.. فشرقكم يا سيدي العزيز.. يصادر الرسائل الزرقاء.. يصادر الأحلام من خزائن النساء.. يستعمل السكين والساطور كي يخاطب النساء.. يصنع تاج الشرف من جماجم النساء.. لا تنزعج يا سيدي العزيز.. من سطوري.. إن كسرت القمقم المسدود من عصور.. إذا هربت من أقبية الحريم في القصور.. إذا تمردت على موتي.. على قبري.. على جذوري»-نزار قباني-
لقد علّم نزار قباني نساءه الشعريات «أن لا شرف ولا عار»، فالشرف والعار قيدان تاريخيان، على المرأة أن تتحرَّر منهما، هذه «الفوضى الأخلاقية» التي زرعها نزار قباني في ذهن نسائه الشعريات حولت نساءه حيناً إلى «بائعات هوى».
«على كراستي الزرقاء.. تسقط كل أقنعتي الحضارية.. ولا يبقى سوى جسدي.. يعبر عن مشاعره .. بلهجته البدائية» -نزار قباني-
فهل استطاعت قصائد نزار قباني أن تكون الوجه الآخر للمرأة العربية المعاصرة و أن تمثِّل تاريخ النساء؟
«اقرأيني.. كي تحسي دائماً بالكبرياء.. كلما فتشتِ في الصحراء عن قطرة ماء.. كلما سدوا على العشاق أبواب الرجاء.. أنا لا أكتب حزن امرأة واحدة.. إنني أكتب تاريخ النساء.. ولكنني شاعر.. قد تفرغ خمسين عاماً.. لمدح النساء!» -نزار قباني-