أملك في مكتبتي المتواضعة كتبًا لا تقدر بثمن للأديب الكبير وعالم اللغة د.عبدالله بن سُليم الرُّشيد، الذي قضى عمره الذهبي في رياض العلم والثقافة؛ يجني من مدونات الأدب العربي، ومن كنوز الكتب التراثية، ومن ذهب المعاجم وممّا لذ وطاب من الشعر واللغة والجمال...
هذا المبدع بذهنية متقدة، ومهارة فائقة يقتنص من اطلاعه الواسع وقراءته الجادة «فكرة كتاب» لم يلمحها ماهر غيره!، (وكل عناوين كتبه تثبت ذلك..)، ثم يبدأ بكل ما أوتي من قوة علمية بالبحث والتنقيب والمراجعة والتدقيق؛ حتى يخرج كتابه للنور وهو في أجمل حلة...
هذا الأكاديمي يرشُّ على (جفاف اللغة العلمية والمصطلحات..) من الشعر عذوبة فائقة.. ولا غرابة؛ فهو الشاعر الذي على طريق الشعر «يمشي ملكًا».
كيف لا؟ وهو الذي بكل ثقة وبكل شجاعة نشر بنفسه على غلاف ديوانه: «نسيان يستيقظ» مما قيل في ذم شعره!
تجلت موسوعيته واطلاعه على التراث الأدبي في كتابه (تدوين المجون في التراث العربي)، وألمعيته في كل كتبه ومنها: (جمهرة مقطّعات الأعراب النثرية) وعبقريته في كل كتبه ومنها: (شعر الجنّ في التراث العربي، تاريخ وسيمياء) الذي صدّره بهذا الإهداء اللافت:
«إلى النفر من الجن الذين قالوا: «إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا»
وإلى كل جني لم يزدنا رهقا
وإلى كل إنسي تستهويه أحاديث الجن».
حينما أقرأ لهذا اللغوي البارع والأكاديمي الذي عرف بالصلابة والرصانة في داخل الحرم الجامعي، وجمع بين (الشدة الأكاديمية) و(الروح المرحة) في محاضراته ومناقشاته, وبين الكلمة الساحرة واللذعة الساخرة في مقالاته ومقابلاته, أشعر أن كتبه تقول لطلابه وأصدقائه وزملائه: تأملوا كيف يختار الأكاديمي الحاذق المواضيع وكيف يتناولها, تأملوا الرصانة المنهجية, تأملوا اللغة العلمية, تأملوا قوة العلم والبحث والتركيز والدقة..
مؤخرًا صدر للدكتور عبدالله كتاب (بانت سعاد.. بان سعيد) سلّط فيه الضوء على «ما قالته النساء الشواعر غزلًا, أي كن هن المتغزلات لا المتغزل بهن»..
كتاب صغير ماتع خفيف لطيف، وجدت فيه إجابة سؤال لمع في ذهني قبل سنوات حينما قرأت كتاب د.عبدالله بن رداس الحربي (شاعرات من البادية)، واستوقفني وقتها غزل بنات الصحراء (وضحى, وقمرى, وصيتة, ونافعة, وشلسا, وبخوت..) البدويات اللاتي صرّحن بالعشق، وغنّين من قلوبهن -على رمالنا المشتعلة - أصدق قصائد الحب وألطفها..
فدار في ذهني هذا السؤال: وماذا عن غزل (شواعر الفصحى) في العهد القديم!!
كيف هي قصائدهن؟ ما لونها؟ هل كتبن أم كبتن؟!
فأنا لا أتذكر -وقت دراستي في كلية اللغة العربية - أن أحدًا من أساتذتنا استشهد ببيت غزلي واحد لشاعرة مشهورة أو مغمورة, ولا أتذكر أنني قرأت لشاعرة «أشهر من نار على علم» (الخنساء) بيت غزلي..
حقيقة تكاسلت عن البحث كما يبحث القارئ الجاد عن إجابة السؤال الذي يشغله؛ ولكن حينما لمحت في تويتر تغريدة من لا يجارى إذا بحث وإذا كتب.. عن كتابه الجديد (بانت سعاد..بان سعيد) اشتعل السؤال من جديد، فطرت إلى المكتبة من نافذة أول فرصة..
ولأول مرة أتصفح الكتاب في المكتبة وفي السيارة وعند الإشارة قبل وصولي إلى البيت..
وأول ما اقتطفته من هذا الكتاب إجابة سؤالي وأسئلة تحتاج إلى إجابات:
«مقدار ما وصلنا من الشعر المنسوب إلى النساء قليل, والغزل فيه أقل, فهل كانت النساء منصرفات عن الشعر؟ أوكنّ عاجزات عنه؟ وإن كان لهن شعر غزير فأين هو؟ لقد حفظت بعض المصادر ما يدل على غزارة شعر النساء, يقول أبو نواس: «ما ظنكم برجل لم يقل الشعر حتى روى دواوين ستين امرأة من العرب, منهن الخنساء وليلي؟ فما ظنكم بالرجال؟ وإني لأروي سبعمئة أرجوزة ما تعرف»، وينقل عن أبي تمام أنه حفظ سبعة عشر ديوانًا للنساء, فمن هؤلاء الشواعر؟ وأين شعرهن؟ ولماذا غفل مصنفو الطبقات والتراجم وأصحاب المختارات ذكر النساء الشواعر إلا قليلا».
وفي (خاتمة) الكتاب إجابة: «أهم ما بلغته أن شعر المرأة في الغزل بالرجل ليس بالقليل, ولكن لم يصلنا منه سوى النزر بالإضافة إلى ما قيل عن كثرة شعر النساء بعامة في الأغراض الأخرى».
في مدخل الكتاب توطئة للدخول إلى الغزل عند النساء دونما إطالة, (تعريف للغزل ولمحة عن الغزل عند الشعراء..)، ثم يوضح المؤلف الذكي القصد من هذا المدخل:
«فهو من التذكير بما لا ينسى, وهو تعريف بالمعرّف ومن العي الإسهاب فيه..»
واللافت لي في هذا الكتاب الاحترازات والتحوطات التي تدل على دقة الكاتب, فحين أورد قول امرأة من خثعم:
فإن تسألوني من أحب فإنني
أحب وبيت الله كعب بن طارق
أحب الفتى الجعد السلولي ناضلا
على الناس معتادًا لضرب المفارق
علّق: «على أنه ينبغي لي ألا أقطع بأن هذا الشعر غزل, فقد يكون كعب بن طارق هذا أباها أو أخاها..»
وحين أورد قول أم ضيغم ال بلوية (وبتنا خلاف الحي لا نحن منهم..) علّق:
«أميل إلى وضع كثير من هذا الشعر المنسوب للنساء في موضع النظر والتربص بحقيقته..»
وحين أورد ومضة من «الغزل الحسي» وقف موقف المتأمل المتسائل:
«أهذا القول مدرج في التعبير الانعكاسي الواقعي؟ أم هو من التخييل والتعبير المجازي؟»
لا يخلو الكتاب من الطرائف ومنها: في هامش صفحة (للشاعر شيطان, والشاعرة لا شيطان لها) يقول (أبو بسام):
«حين درّستُ هذه القضية لطالبات الدكتوراه عام 1439 في قسم الأدب بجامعة الإمام بالرياض علّقت إحدى الطالبات تعليقًا مثيرًا, إذ قالت: (المرأة ليست في حاجة إلى شيطان؛ لأنها هي شيطانة!)».
لا أدري،كيف حوى هذا الكتاب الصغير في حجمه (أسئلةً وإجاباتٍ وكتبًا وشعرًا وأسماءَ.. وأخبارَ المتغزّلات، وفلسفةَ العشق، وغزلَ المرأة والشعريةَ المضادة..)
أنا من القراء الذين إذا أعجبهم كتاب قالوا: (من أجمل, ومن أمتع, ومن أفضل.. ما قرأت)!
اليوم أقول لكم: الكتاب الذي يفتح باب الأسئلة يستحق سؤالكم عنه..
تغريدة:
الكتاب: قطعة من سحاب
المؤلف: «مهتم بكل مهم».
** **
- عبدالعزيز بن علي النصافي