لأنَّ رحلتي البحثيَّة اقتضتِ (الإبحارَ) في عالمِ الطِّبِ و(الغوصَ) في مصادرهِ القديمةِ والحديثةِ، فإنّه استوقفني كتابٌ طبّيٌّ عربيٌّ، يختلفُ عن غيرهِ مِنَ الكتبِ الطّبيّةِ؛ لاعتمادهِ على اللُّغَةِ العربيَّةِ اعتمادًا كُليًّا في تعريفهِ للمُصطلحاتِ الطّبيّةِ، هو مصدرٌ ضخمٌ، ثريٌّ، يغذّي الثّقافةَ العامّةَ، زاخرٌ جدًّا بالمعلوماتِ القيّمةِ، وفي حقيقةِ الأمرِ أفدْتُ منه كثيرًا في رسالتي (الماجستير)، وهو جديرٌ بالقراءةِ والدِّراسةِ والخوضِ في غِمارِه؛ لما يحويهِ مِن معلوماتٍ لُغَويَّة طبيَّة مُفيدة، ولعلّ ما يميّزه هو أنّهُ جمعَ بين حقلين عِلمِيَّين رئيسين، وهُما: (اللُّغَة والطِّبِّ)، واسمُ هذا الكتاب: (معجمُ الماء) لمؤلِّفِهِ: أبو محمَّد عبد الله بن محمّد الأزديّ الصّحاريّ (ت456هـ)، المعروف بابنِ الذّهبيّ، وكان ظهور هذا الكتاب في سنةِ 1996م)، ولم أعثرْ على طبعتهِ الأولى فيما وقفتُ عليه من كتبٍ طبّيّةٍ؛ لذا فإنّني اعتمدتُ في بحثي على طبعتهِ الثّانية التي حقّقها الدّكتور: هادي حسن حمودي.
ويقعُ هذا المعجم في ثلاثةِ أجزاءٍ، حيث إنَّ المؤلِّفَ «قسَّمَ كتابَهُ إلى أبوابٍ، يحملُ كلّ بابٍ منها اسمَ الحرفِ الذي تبتدئُ به الألفاظ المذكورة فيه، وذلك بحسب حروف (أ، ب، ت، ث، ….إلخ)، ووضعَ في كلِّ بابٍ الجذورَ اللُّغَويَّةَ التي تبدأُ بذلك الحرف، فنجد (أكل) في الهمزة، و(بصر) في الباء….»
وهكذا، وذُكِرت سيرةُ المؤلّف قديمًا في أربعةِ أسطر فقط، وهي: «هو أبو محمَّد عبد الله بن محمد الأزديّ الصّحاريّ، ويُعرَفُ بابنِ الذّهبيّ، أحد المعتنين بصناعةِ الطِِّبِّ ومُطالعةِ كتبِ الفلاسفةِ، وكانَ كلِفًا بصناعةِ الكيمياء، مُجتهدًا في طلبِها، وتُوفّي ببلنسية -وهي مِن ديارِ الأندلُس- في جمادى الآخرة سنة ستٍّ وخمسين وأربعمائة، ولابنِ الذّهبيّ مقالة في أنّ الماءَ لا يغذو»، وقد علّق عليها المحقّق بأنّها ناقصة، وغير مفهومة؛ فلم تُفَسّر مقالته، وعلاقته بالكيمياء، وذهابه إلى بلنسية، بيد أنّه التمسَ العذرَ للقدماء، وسدَّ ثغراتِ مسيرته، يقول: «وربّما نلتمس للقدماء عذرهم بسبب مواضعات أزمانهم وظروفهم، ويبقى علينا أن نتحمّل مسؤوليّة تقويم ما يمكن تقويمه...»؛ فأورد المحقّقُ مكانَ ولادتِه، حيثُ إنَّهُ وُلِد في (صحار)، وهي مدينةٌ من مُدُنِ سلطنةِ عُمان الشّقيقة، وذكرَ في معرضِ حديثه تنقُّلاتِ الصّحاريّ (ت456هـ) ورحلاتِه بين البلدان في أربعِ صفحات من الجزء الأول، ويعدُّ ابن سينا (ت427هـ) أحدَ مشايخه، وأستاذه الذي تأثّر به وأخذ عنه.
ثمّ انتقلَ إلى الحديث عن مضمون المعجم، قائلًا: «كتابُ الماءِ معجمٌ طبيٌّ لُغَويٌّ نظمهُ مؤلّفُه على حروفِ الألف باء، مبتدئًا بالهمزة ومنتهيًا بالياء، وجعل موادّه خالصة للطِّبِ أحيانًا، وجامعة بين الطّبِّ واللُّغَة أحيانًا أخرى»، كما بيَّن المنهج الذي سار عليه المؤلّف: «وإن كان في أحيانٍ قليلة تغلبهُ اللُّغة فيكتفي بذكرِ المعنى اللّغويّ للجذرِ حينَ لا يجد له معنًى طبيًّا، وهذا قليل جدًّا...»، وقد سلَّطَ الضَّوءَ في مصطلحاتِهِ على: الأمراض، والعلاجات، وأسماء الأدوية وأنواعها وتركيبها، وأسماء النّباتات الطّبيّة وخصائصها، ووصف أعراض الأمراض النّفسيّة والاضطرابات العقليّة وأعراضها وكيفيّة تخفيفها أو التّخلُّص منها، ويستكمل المحقّق توضيح المنهج الذي اتّبعه المؤّلف في تصنيفه للمصطلحات في المعجم، بقوله: «…ولكن طبيعة منهجه في تنظيم المعجم ألزمته أن يذكر العلاجات في أسماء الأدوية أو النّباتات وما إليها لا في أسماء الأمراض منعًا للتّكرار».
وممّا لفت انتباهي كثرة الأمثلة المُوضّحة لمنهجهِ في المعجم، كما تقيّدَ المؤلّف بأخلاقِ الطِّبِّ، ويتبيَّن للقارئ من خلال كتاباته أنه عمدَ إلى أسلوب (الاختصار) في جميع أجزائه، ولكنّه بلا شكّ الاختصار الوافي الذي لا نقصَ فيه، وقد بدأ في جزئِه الأول بالحديث عن (الماء) حديثًا مفصّلًا كونه عنوانًا لكتابهِ؛ فعرّفهُ وذكر أنواعه ومصادره… إلخ، وكان السّبب الذي دعاه إلى تأليف معجمه هو انتشارُ اللّحن والغلط، يقولُ الصّحاري (ت456هـ): «ولمّا كان الغالب على أبناء صنعتنا اللّحن والغلط، ولقد تفشّت فيهم العُجمة والشّطط… عزمتُ على أن أكتبَ كتابًا يجمعُ بين الطِّبِّ والعربيَّةِ، ويضمُّ الأمراضَ والعِلَلَ والأدواء، وما يجبُ أن يُتَأتَّى لها مِنَ العِلاجات والأدوية…».
وقد سمّى معجمه (بالماء) اقتداءً بأستاذه الخليل بن أحمد الفراهيديّ (ت175هـ)، يقول: «وسمَّيتهُ (كتاب الماء) باسمِ أوّلِ أبوابهِ، وهو (الماء) أُسوةً بالخليل بن أحمد (ت175هـ) الذي سمّى كتابَهُ باسمِ أوَّلِ حروفه وهو العين.
كما امتدحَ المحقّقُ جهودَ المؤلّفِ في تصنيفهِ للمعجم وتأليفهِ، بقوله: «فإنَّ المؤلّفَ وضعَ في الجذور اللّغويّة ما يلائمها من معارفهِ الطّبيّة مشيرًا من حينِ إلى آخر -وبحسب دلالةِ الجذرِ اللُّغَويّ- إلى علومٍ أخرى، كالكيمياء والفلك والفلسفة والمنطق بأسلوبٍ مُشْرقٍ رصينٍ يؤكِّدُ أنَّ المؤلِّفَ ذُو مكنةٍ لُغَويَّةٍ عاليةٍ، تلوحُ فيها أحيانًا تأثيراتُ مهنةِ الطِّبِّ ومصطلحاتها، مع وضوحِ جهد المؤلّف في صياغةِ الكُتبِ باللُّغةِ العربيّةِ العاليةِ…»، وكان اعتماده الكبير في مصادرهِ على تجربتهِ الشّخصيّة، إلى جانب علمِ مشايخهِ الكبار، وهم: الخليل بن أحمد (ت175هـ)، وابن سينا (ت427هـ)، والبيرونيّ (ت440هـ).
وختم المؤلّفُ حديثَهُ بذكرِ أهم الأهداف التي ارتكز عليها هذا النّتاج العلميّ الضّخم، وهي: تقريب القضايا الطبيَّة إلى عامَّة النّاس؛ وذلك بانتقاء الألفاظ والأساليب التي تتناسب مع مداركهم، وتعلُّم مهنة الطِّبِّ، بالإضافة إلى تعريب ألسنة الأطباء الذين يتحدّثون باللُّغة الأجنبيَّة ويتفاخرون بها.
ولحِظتُ من خلال اطّلاعي على أجزائه أنَّ الهوامش لا تكون في أسفلِ الصّفحات بل جاءت كالفهارس؛ حيثُ إنَّ المصطلحات التي تحتاج إلى توضيح تُرقَّم فقط، ومن ثمّ يأتي تفسيرها في نهاية كلِّ بابٍ، بالإضافة إلى أنّ المؤلّف استعانَ ببعضِ الأحاديثِ الواردة عن النّبيّ -?- وأقوالِ علماء آخرين، كما بدا تأثّرهُ الجليّ باللُّغَويّ الجليل: الخليلُ بن أحمد الفراهيديّ (ت175هـ) في تعريفاته اللُّغَويَّة للمصطلحات الطِّبيّة، بالإضافةِ إلى استشهادهِ ببعضِ أقواله وهي الأكثر، وهذا يدلُّ على أنّ المعجماتِ اللُّغويّة هي الأصلُ.
ولعلّ ما يميّز الصّحاريّ (456) ميلُهُ إلى الوضوحِ التَّام، والاختصارِ، وبعدهِ عن حشوِ الكلام، وعرضهُ المتسلسلُ الذي يجذبُ القارئَ، وسهولة إيجاد معاني المُصطلحات، ومعلوماته الثريَّة؛ فلا يملُّ القارئ مِنَ التَّفقُّهِ والاستزادةِ منها، وقد وقع اختياري على هذا الكتاب تحديدًا؛ لقيمتهُ العلميّة كونه يضمُّ عِلْمين مُهمّين، ولغزارة معلوماته، ولتمتُّعِه بالوضوح والسّلاسة، وأنَّ ما يتبادر إلى الأذهان عند سماع (معجم الماء) أنّه معجمٌ يختصُّ بذكر (مترادفات الماء) فقط، ولكنّه ليس كذلك.
وختامًا، فهذه ومضة سريعة لمعجمٍ شدَّني منهجُه المتميّز ومحتواهُ الماتع، والحديثُ عنه يطول ولا تكفيه هذه السّطور، وآمل من المهتمّين بمجالي (اللُّغَة والطِّبِّ) أنْ يجدُوا فيه ما يعود عليهم بالفائدة، وعلى الرَّغمِ من أنّ بعض مسمّيات المصطلحات الطّبيّة الواردة في المعجم قديمةٌ جدًّا، وتختلفُ عن مصطلحات الطِّبِّالحديثة، إلّا أنَّ توظيفها كنزٌ يدعم الأبحاث الطّبيَّة العربيَّة في وقتنا الحاضر خاصّة أنّ العودة إلى المصادر القديمة أمرٌ مطلوب، وهذا المعجم يعدُّ مصدرًا أصيلًا في العلومِ الطِّبيّة؛ لأنّه متكاملٌ.
Twitter: @nada_alnabhan
المصادر والمراجع:
1- الصّحاري، أبو محمّد، (2015): الماء (أوّل مُعجم طبّي لُغويّ في التّاريخ)، تح: هادي حمودي، ج1، ص53، وزارة التّراث والثّقافة- سلطنة عمان، ط2.
2- المصدر نفسه، ج1، ص41.
3- انظر: المصدر نفسه.
4- المصدر نفسه، ج1، ص42.
5- المصدر نفسه، ج1، ص43.
6- المصدر نفسه، ج1، ص43-46.
7- المصدر نفسه، ج1، ص45.
8- المصدر نفسه، ج1، ص47.
9- المصدر نفسه.
10- للاستزادة، انظر بتوسّع: المصدر نفسه، ج1، ص47-52.
11- المصدر نفسه، ج1، ص48.
12- انظر: المصدر نفسه، ج1، ص56.
13- للاستزادة، انظر بتوسّع: المصدر نفسه، ج1، ص56، 57.
14- المصدر نفسه، ج1، ص53.
15- المصدر نفسه.
16- المصدر نفسه، ج1، ص54.
17- انظر: المصدر نفسه، ج1، ص74.
18- انظر: المصدر نفسه، ج1، ص75.2
** **
- ندى بنت محمد النبهان