عادة ما يمر الإنسان قي حياته بكثير من المحطات الإنسانية وهذه المحطات تتراوح بين النجاح والفشل والطموح والانكسار فبعض الناس قد يستسلم لمحطات الفشل والانكسار من أول وهلة في حياته خاصة لو كان هذا الفشل جاء في مراحل التعليم المتقدمة نسبيا كالرسوب في مراحل الجامعة بدعوي النصيب والقدر وقلة الموارد والحيلة ومنهم من تكون عنده إرادة قوية ويتخذ من فشله هذا سلماً للنجاح في طريق آخر ويستطيع بجهده ومثابرته أن يخلد اسمه بين صفحات التاريخ من هؤلاء الأديب الروسي: ليو تولستوي.
يعد ليو تولستوي من أعظم الأدباء الروس, بل من أعظم أدباء التاريخ الذين أبقوا إرثاً أدبياً يثير إعجاب الملايين الذين أحبوا أعماله قصة تولستوي قصة مليئة بالإنجازات والإبداع والحزن.
فمن هو تولستوي؟
المولد والنشأة
ولد ليو تولستوي في 28 أغسطس 1828م في ياسينا بوليانا زكان الرابع بين خمسة أبناء . توفي والده وهو صغير, فقام بعض أقربائه, بتربيته. التحق بجامعة كازان عام 1844م. ودرس القانون واللغات الشرقية. ولكن طريقة التدريس لم تعجبه, فهجرها إلي الأعمال الحرة عام 1847م, وبدأ بتثقيف نفسه. وشرع في الكتابة, وفي تلك المرحلة من حياته كتب ثلاث كتب وهي «الطفولة»1852م «والصبا 1854م. والشباب, 1857م. وسئم حياته تلك, فالتحق بالجيش وشارك في بعض المعارك, وكتب عن تجاربه تلك موضوعات نُشرت في الصحف وألّف عنها كتابه «القوقاز» 1863م (1)
زواجه ومبادؤه
تزوج من صوفيا أندريفنا عام1862م. وقد أنجبا فيما بعد ثلاثة عشر طفلاً وكان زواجه سعيداً في البداية, إلا أن ذلك لم يستمر, إذ أخذ يدعو إلى مبادئه عن الحب والسلام وإلغاء الرق والإقطاع, ثم أصبح يطبق هذه المبادئ علي حياته, فعاش حياة الزهد يرتدي الثياب الخشنة ويصنع أحذيته بيديه, ويأكل طعاماً بسيطاً في طبق من خشب, وتخلى عن جميع ممتلكاته الأمر الذي أدى إلى نشوب خلافات خطيرة بينه وبين زوجته. وانضم أبناؤه إلى أمهم ما عدا ابنته الصغرى الكسندرا, فعاش الرجل شقياً في أسرته التي لم ترض عن آرائه, لذا عدّ تولستوي من أشهر الحزينين في التاريخ, وبعد تقاعده من الخدمة العسكرية سافر إلى أوربا الغربية, وأعجب بطرق التدريس هناك. ولما عاد لمسقط رأسه بدأ في تطبيق النظريات التربوية التقدمية التي عرفها, وذلك بأن فتح مدرسة خاصة لأبناء المزارعين, وأنشأ مجلة تربوية تدعي «ياسنايا بوليانا» شرح فيها أفكاره التربوية ونشرها بين الناس. وفي عام 1869م خرج تولستوي بواحد من أشهر أعماله «الحرب والسلام» وقد اعتبر من عيون الأدب العالمي, ويتناول هذا الكتاب مراحل الحياة المختلفة,كما يصف الحوادث السياسة والعسكرية التي حدثت في أوربا في المدة ما بين 1805م و1820م وتناول غزو نابليون لروسيا عام1812م. من أشهر كتبه أيضاً «أنا كارنينا» الذي عالج فيه قضايا اجتماعية وأخلاقية وفلسفية في شكل مأساة غرامية بطلتها هي أنّا كارنينا.
فلسفته الأخلاقية
أما عن كونه فيلسوفاً أخلاقياً, فقد اعتنق أفكار المقاومة السلمية النابذة للعنف, وتبلور ذلك في كتاب «مملكة الرب بداخلك»وهو العمل الذي أثر في مشاهير القرن العشرين مثل الماهتما غاندي ومارتن كينج في جهادهما الذي اتسم بسياسة المقاومة السلمية النابذة للعنف. وقد تعمق تولستوي في القراءات الدينية, وقاوم الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا, ودعا للسلام وعدم الاستغلال. وعارض القوة والعنف في صورهما شتي, ولم تقبل الكنيسة آراء تولستوي التي انتشرت بسرعة فكفرته وأبعدته عنها, وأعجب بآرائه عدد كبير من الناس وكان يزورونه في مقره بعد أن عاش حياة المزارعين البسطاء تاركاً عائلته الثرية المترفة, ومن كتب تولستوي المشهورة أيضاً كتاب ما الفن؟ الذي أوضح فيه أن الفن ينبغي أن يوجه الناس أخلاقياً وأن يعمل على تحسين أوضاعهم, ولا بد أن يكون الفن بسيطاً يخاطب عامة الناس, وفي أواخر أيام حياته عاد تولستوي لكتابة القصص الخيالية فكتب موت أيفان إيلييش (1886م) كما كتب بعض الأعمال المسرحية مثل قوة الظلام «1888م» وأشهر أعماله التي كتبها في أواخر حياته كانت «البعث» وهي قصة كتبها عام 1899م. وتليها في الشهرة قصة الشيطان (1889). وكريوتزسوناتا 1891م و»الحاج مراد» والتي نُشرت بعد وفاته, والتي توضح عمق معرفته بعلم النفس, ومهارته في الكتابة الأدبية, وقد اتصفت أعماله كلها بالجدية والعمق وبالطرافة والجمال. (2)
مأثوراته وأقواله
ربما تعد أفضل مقولاته وهي التي أبدى فيها إعجابه الشديد بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: «يكفي محمداً أنه خلص أمة ذليلة دموية من مخالب شياطين العادات الذميمة, وفتح على وجوههم طريق الرقي والتقدم, وأن شريعة محمد ستسود العالم مع العقل والحكمة, أنا واحد من المبهورين بالنبي محمد الذي اختاره الله الواحد لتكون آخر الرسالات علي يديه, وليكون آخر الأنبياء»
وفاته
وحين بلغ تولستوي الثانية والثمانين ضاقت نفسه بالشقاء المخيم على منزله فهرب من زوجته في ليلة تساقط ثلجها, وسار هائماً على وجهه في الظلام. وفي السابع من نوفمبر عام 1910م وبعد أحد عشر يوماً من هروبه من منزله توفي تولستوي بداء ذات الرئة وحيداً فقيراً في محطة استابوفو للقطارات. وقد شارك آلاف الفلاحين في جنازته. وبعد وفاته قالت زوجته لأبنائها لقد كنت السبب في وفاة أبيكم ولكن بعد فوات أوان الاعتذار من المرأة التي أصبح زوجها من أشهر التعيسين في التاريخ بسببها (3)
الهوامش
1/انظر1-كتاب عظماء بلا مدارس للدكتور عبدالله صلاح الجمعة ط6 مكتبة العيبكان - الرياض 1432هـ ص 303
-2- 3- المصدر السابق 204-305 -306
** **
أسامة الزقزوق - جمهورية مصر العربية