لعلّي أعترف أوّلًا أنّني لم أستطع فهم الحكاية والوصول إلى أعماق قصّة «خارج الأسوار»، للكاتب السوداني المبدع الدكتور «جمال الدين علي»، المنشورة في مجلّة النُّخبة السودانيّة، العدد رقم 45، الصادرة بتاريخ 6 يونيو من العام 2022م. ولم أفقه مغازيها إلّا بعد مطالعتي الثالثة التي كنت خلالها أقرأ بتركيز عالٍ جدًّا، وبحضور ذهنيّ كبير، من دون أن أُغفل أهمّيّة أن تكون قراءاتي المتعدّدة في أوقات مختلفة، وفي ظروف نفسيّة متباينة؛ دفعني إلى ذلك، البذخُ الكتابي الذي حفل به النصّ، فأسرني، وحضّني على المثابرة بغية الوصول إلى أصل الحكاية وعمقها التنويري. كنت حينها أخشى، ضمنيًّا، ضياع كلّ هذا الجمال إن تأكّد لي سطحيّة النصّ وخلوّه من المعاني العميقة، فيكون كتلك المرأة الجميلة التي تمنَّى الجميع لو أنّها بقيت صامتة، بعدما سمعوا حديثها الذي أفسد كلّ جمالها.
غير أنّ الكاتب بدا، من سياق سرده الجميل، يعلم جيّدًا كيف تُكتب القصّة الإبداعيّة، وبالتالي يستحيل أن يُضيعَ كلّ هذا الجمال الكتابيّ، واللوحات الشاعريّة الفاتنة، والوصف السُّرّيالي المتقن، والسيميائيّات الإبداعيّة التي زرعها في ثنايا نصّه فأشغلَ القرّاء بها؛ إضافة إلى الفنون الكتابيّة التي أجاد استخدامها، من أنسنة، وتشبيهات بديعة، ووصف غاية في الروعة... أقول، يستحيل أن يُضيعَ الكاتب كلّ هذا الجهد، فيضمّنه في حكاية جوفاء لا معنى ولا قيمة لها، كما هو حال معظم الكتابات القصصيّة التي ابتُلينا بها في وقتنا الراهن..
ذلك ما دعاني إلى معاودة القراءة للمرّة الأخيرة، محاولًا تلمُّس أيّ خيط يقودني إلى فهم الحكاية؛ ولقد كان لي ذلك بالفعل عندما استوقفتني حكاية الفيلم الأمريكي الرائع Our Souls at Night الذي استشهد به النصّ، وكان من محاسن الصدف مشاهدتي أنا أيضًا لهذا الفيلم، وتأثُّري بالمغازي العميقة التي دوّنها كاتب الفيلم «Scott Neustadter» بمساعدة «السيناريست» المبدع «Michael H. Weber»، وأظهرها لنا المخرج الهندي العبقري «Ritesh Batra»، عندما أوقفونا على أنّ الإنسان في مراحله العمريّة المتقدّمة يكون بحاجة ماسّة إلى الدفء العاطفيّ، والأمان المفقود، أكثر من حاجته إلى الطعام والشراب، وقد يعجِّل فقدهما بهلاكه. بالمناسبة، هذا الفيلم مأخوذ عن رواية تحمل العنوان نفسه: «أرواحنا في الليل»، وهي آخر ما كتبه الروائي الأمريكي الراحل «Kent Haruf» في العام 2014م، ونشرت في العام 2015م.، بعد وفاته بعام، وتحوّلت في العام 2017م. إلى فيلم سينمائي، من بطولة فنّانة الأوسكار العالميّة «Jane Fonda»، والفنّان ومخرج الأوسكار العالمي الشهير «Robert Redford».
تكفّلت بطلة العمل المسنّة ـ بعد استحضاري حكايتها مع جارها المسنّ وابنها وحفيدها ـ بإيصالي إلى مفتاح القصّة التي أظنّها سلّطت الضوء على عقوق الأبناء، وقسوة قلوبهم، واعتقادهم أنّ آباءهم في هذه المرحلة العمريّة المتقدّمة فقدوا إحساسهم بالحياة في شقّها الشعوري والنفسي، ولم يعودوا يبحثون إلّا عن الطعام والشراب والمأوى، خاصّة إن كانت ذاكرتهم بدأت تتفلّت، وهي الحالة التي وصفتها القصّة على لسان البطلة عند قولها: «ليس لي من ذاكرة آنيّة أتوكّأ عليها»، وفي قولها: «يتغلّغل في مفاصل الذاكرة يفكّكها». هذه الحكاية الحزينة تمّ اختزالها وتكثيفها، وتحوّلت بمبضع الكاتب إلى مشهد بسيط، صوّر لنا كيفيّة رمي الوالدة خارج أسوار الحياة التي منحتها لابنها، وحمتهُ داخلها وقوّتهُ حتّى يحميها بدوره عندما تصبح بحاجة إليه.
رغم جمالها، وتفرّدها، وأصالة أسلوبها، وذكاء كتابتها، كانت الحكاية -للحقّ - مرهقة، يصعب فهمها، ولم تشفع لها السيميئيّات الإبداعيّة التي زرعها الكاتب في طريقنا، بدءًا بالعنوان اللافت وانتهاءً بالقفلة المدهشة. فهل كان غموضها المتناهي مزية أم عيبًا في النصّ؟!
في الواقع، لا يمكننا إنكار أنّ صعوبة فهم القصّة والوصول إلى مغزى الحكاية، إن كان بهذه الدرجة من التعقيد، يُعَدُّ عيبًا في حال لم يكن مبرَّرًا، وكذلك بعض الصور الشاعريّة، والأساليب الكتابيّة الإبداعيّة، قد يراها البعض متكلِّفة أو متعالية، لا تحترم ذكاءه، فينفر منها رغم جمالها؛ ناهيك بأنّ معظم القرّاء لا يقرأون النصوص إلّا مرّة واحدة فقط، ولا يلتفتون إليها بعد ذلك، خاصّة إن لم يستطيعوا فهمها، فيضيع كلّ هذا الجمال النخبويّ - يقينًا - إن لم يستطع النصّ كسب المتلقّي، واستبقاءه في معيّته لأيّ سبب من الأسباب، وبالتأكيد يأتي الغموض والتكلُّف الزائد في مقدّمة الأسباب المنفِّرة.
وحتّى لا نظلم النصّ بسبب هذه الإشكاليّة - رغم إقرارنا بأهمّيّتها ومحوريّتها - علينا التأكُّد أوّلًا من أنّ الصعوبة ليست نتيجة عدم امتلاك القارئ الأدوات الكافية التي تيسّر له الوصول إلى المعاني، أو محدوديّة مخزونه اللغوي (فهذه تُعدّ مشكلة شخصيّة لا علاقة للنصّ بها)، وأنّها لم تكن نتاجًا طبيعيًّا للانبهار بالمظهر الذي قد يصيبنا أحيانًا بالغباء اللحظي، فلا نلتفت مطلقًا إلى الجوهر، ونفقد معظم قدراتنا العقليّة، وهي حالة تعترينا غالبًا - كما أسلفنا - في حضرة الجمال...
على أيّة حال، سيتّضح كلّ ذلك عند استعراضنا الدلالات السيمائيّة المبثوثة في النصّ، والتأكُّد من قدرتها على إيصالنا إلى المعنى المنشود من عدمه؛ هذه السيميئيّات ظهرت مبكّرًا، عندما أخذنا القاصّ الجميل في جولة وصفَ من خلالها خريف العمر وصفًا رائعًا، قال: «أجدني روحًا هائمة في دهاليز جسد متصدّع آيل للسقوط»، هذا الوصف البديع أوقفنا على حقيقة مهمّة وهي أنّ التجاعيد والأمراض والوهن الشديد غالبًا ما تصيب الجسد فقط، أمّا الروح فتبقى متوثّبة، لكنّها - تبعًا لوصفه - لا تُظهر تألّقها لانشغالها بالحالة المتداعية للجسد؛ وكأنّه يريد إفهامنا أنّ هذه الروح تحتاج منّا مراعاة انشغالها بتصدّعات الوعاء، واختيار الطريقة المثلى للتعامل معها، وبالتالي عدم إغفالها في العلاقات الإنسانيّة، لأنّها آخر ما يغادر أجسادنا.
إنّ هذه الدلالة اللفظيّة الصريحة كانت - في ظنّي - كافية للإمساك بطرف الحكاية، لكنّها لم تنجح في ذلك بسبب الغموض أو الجمال اللفظي الذي أعقبها في قوله: «ومع أنّ أعماقي تُشعّ نورًا ولا تزال نابضة إلّا أنّ تلك الغلالة السوداء التي انسدلت على حواف العمر تحجب عني الرؤية». كذلك قوله: «ليس لي من ذاكرة آنيّة أتوكّأ عليها فأتخبّط في ركام الأحداث بالنهار». هذا الجمال الكتابي الغامض إلى حدّ ما، كان بالفعل حجابًا أطفأ نور العقل، وجعله هو الآخر يضيع في دهاليز جمال الوصف، من دون أن يذكر ما يشير إلى أنّ الراوية المتكلّمة امرأة طاعنة في السنّ، أو يتحدّث عن فصول قصّتها المأساويّة؛ وهو أمر يمنح العذر لمن فقد اتّصاله بالنصّ عند هذه البداية الصادمة بجمالها.
بالعودة إلى الحكاية، نجد أنّها تتحدّث ببساطة - كما أسلفت - عن مسنّة سيلقى بها خارج الأسوار، ولقد كانت الأسوار تستحقّ بالفعل التوقّف عندها، والحديث عنها بمعناها الشمولي، وعدم الانشغال بغيرها. لذا كان اختيار العنوان موفّقًا، ولم يأتِ اعتباطًيًّا بل مقصودًا بذاته، وكان محورًا أساسيًّا لكلّ الحكاية من بدايتها وحتى نهايتها، وتُرك هكذا دون تحديد ليشمل كلّ الأسوار، ما كان منها داخل أجسادنا أو خارجها، قريبًا منّا أو بعيدًا عنّا؛ تتسبّب هذه الأسوار غالبًا بالكثير من الإشكاليّات التي نعاني منها، فهذه المرأة المسنّة وجدت نفسها فجأة خارج أسوار مشاعرها الفطريّة، وهي تُصدم بتصرُّف ابنها، وخارج أسوار أمنها وطمأنينتها، عندما وجدت نفسها غريبة بين أناس لا تعرفهم، وجدران تراها لأوّل مرّة، وألوان فقدت دلالاتها، ولم تكن الأسوار خاصّة بها وحدها، فابنها أيضًا وجد نفسه خارج أسوار الوفاء والقيم الأخلاقيّة وهو يرمي بوالدته في غياهب دور المسنّين، ولا أدلّ على ذلك من نظرته المنكسرة في مرآة السيّارة، وجفول عينيه عند التقائهما بنظراتها، بعدما حملها ليرميها خارج أسوار بيته. كانت هذه النظرات كافية لنعرف أنّه أصبح هو أيضًا خارج الأسوار، يصطلي بنيران عقوقه. زوجته أيضًا رمى بها النصّ الإبداعي خارج أسوار الجمال، وقد أفقدها تصرّفها على هذا النحو المُغرق في الخسّة جمالَها، ولم تفلح المساحيق - رغم كثرتها - في استعادته. حتّى الابنة الصغيرة التي جلست بجوار جدّتها وهي في طريقها إلى دار العجزة، لم تسلم من هذه الغربة الحدوديّة، بل رُميت هي الأخرى إلى خارج سور الوفاء والبرّ بأبيها وأمها، فحضورها هذا الموقف سيصبح له انعكاسٌ مستقبليٌّ مبرَّر على تصرّفاتها. وقد استحضرها الكاتب عمدًا في هذا الموقف وبذكاء.
حاول النصّ برمزيّته المتقنة والجميلة إيقافنا على أنّ دلالات الألوان لم يعد لها هي الأخرى مكان داخل الأسوار، ورُميت إلى الخارج؛ فالأبيض لم يعد رمزًا للنقاء والصفاء والوفاء والأمان، إذ أصبح يتدثّر به قاطنو هذه الأماكن التي لم يُحضرهم إليها إلّا غياب هذه القيم وتلطُّخها بالسواد. ولعلّ من المفارقات أن تُصبغ جدران السجون باللون الأبيض.
وتأتي الخاتمة لتضعنا خارج الأسوار مرّة أخرى، ولكن بشكل معاكس، فكان خروج الجدّة رائعًا، إذ قرّرت المبادرة بالقفز فوق كلّ الأسوار، وكسر الأغلال التي أوشكت أن تقتلها، وذلك عند استعادتها ذاكرتها، وأخذها بيد حبيبها، وانطلاقها مرّة أخرى إلى الحياة، واضعة الأسوار خلف ظهرها.
تحدث النصّ مرارًا عن الحالة النفسيّة السيّئة التي كانت تمرّ بها المسنّة: حين وصفت نفسها بـ «كائن هلامي لا معنى لوجوده»، وعند وصفها لحديثها بـ»مذياع قديم لا ينصت لثرثرته المملّة أحد»، ومدى إحساسها بالتهميش في قولها: «كرسٍ قلوب على ظهر طاولة خشبيّة يسكن أرجلها السوس»، ما أعطب ذاكرتها وكاد يقضي عليها؛ في ذلك ما يؤكّد حالة الفقد الكبيرة التي يشعر بها المسنّون رغم أحاطة الجميع بهم. تجلّى هذا الواقع المؤلم في قولها: «في الليل أحضن بعضي وأبكي»! فكم من مسنّ يعيش هذا الإحساس القاتل؟!
باعتقادي إنّ ذلك كان كافيًا لعدم التوهان وفهم الحكاية من القراءة الأولى، لكنّه - في ظنّي - الجمال الذي حجب المعنى وأكسل العقل؛ فالنصّ أخبرنا بكلّ ما نحتاجه لمرافقته في هذه الرحلة الحزينة، وكان علينا الوصول معه مبكِّرًا إلى حالة الانعتاق من ظلم الأسوار واستبدادها، فنبارك اكتشاف المسنّة سرَّ ذاكرتها المثقوبة وفقدها نضارة روحها وشبابها، وحاجتها الملحّة لاستعادة كلّ ذلك بتحطيم الأسوار، وقد فعلَتْ!
** **
- حامد أحمد الشريف