د.محمد بن عبدالرحمن البشر
عندما ترغب أن تأكل طعاماً، بسبب الجوع، أو رغبة في المتعة، فإن أمامك خيارين، إما أن ترفع هاتفك لتطلب ما ترغب في أكله، أو إذا كان لديك الوقت الكافي، فيمكنك أن تدخل إلى المطبخ وتقوم بتحضير ما تراه مناسباً وممتعاً ومفيداً لجسدك ونفسك، لكن هناك تباين بين الحالتين، ففي الحالة الأولى التي تطلب فيها الأكل خارج المنزل، فإنك لا تعرف مكونات الغذاء، ولا درجة نظافته، ولا مهارة من قام بإعداده، ولا مقدار خلوه من المواد الكيميائية والمبيدات، وكذلك السموم التي تنتج من التخزين، مثل الافلوتاكسين، الذي قد يكون مرتفعاً بدرجة عالية تفوق بكثير الحد المقبول، وهو 25 جزءًا في المليون، كل ذلك قد يسبب لك -لا سمح الله - تراكم بعض المواد، التي قد تسبب فيما بعد الأمراض، أو أن تحدث تسمماً مباشراً تجعلك طريح الفراش فترة من الزمن، وهذا ما لا يا يبتغيه ذو العقل.
تماماً كما هي حال الطعام، يكون الحديث عن العلم والمعرفة والحصول على المعلومة، فمن أشكل عليه أمر يحتاج إلى فتيا، سواء في علم شرعي، أو تاريخ إنساني، أو مقارنة أديان، أو غير ذلك من العلوم الكثيرة النظرية غير التطبيقية، فإنه قد يلجأ إلى أحد الأشخاص الذي يرى فيه السداد ليعطيه لقمة سائغة على طبق جميل ما يشتهي دون عناء، وقد يفتح كتاباً من الكتب التي اعتمدت على النقل، أن ظن أنه اجتهد، ويأخذ ما فيها، ليكون دليله إلى المعلومات التي يبتغي، وهذا هو الأمر السائد والأغلب عند الناس، ولا يبذل الأغلب جهداً للتحقق من المعلومة، ومن الأقوال التي قيلت حولها، فقد أخذ برأيي من سأله، أو من قرأ في كتابه، رغم إتاحة الفرصة له والحمد لله في عصرنا الحاضر أن يحصل على المعلومات الكافية والمتنوعة حول نقطة معينة من أكثر من مصدر، من خلال الكتب وتعدد الأقوال المتاحة في الأجهزة والبرامج الحديثة.
من يقرأ كتب التفسير، والتاريخ، والأديان الأخرى، أو بعضها، أو يسمع عبر وسائل التواصل الحديثة، من العلماء الأفاضل في كل مجال، فإنه قد يسمع رأي ذلك الشخص الذي قد يكون رأيه مبنياً على مقدار فهمه، أو توجهاته الإيمانية، أو العرقية، أو السياسية، أو الاجتماعية، أو ربما مصالحه الشخصية، أو جميعها، أو بعضها معاً، لكن ليس بالضرورة أن ذلك الرأي هو الصواب، مهما كان مصدر الرأي وشهرته العلمية، أو شهرة كتابه، لذلك فإننا نجد اختلافاً في بعض المسائل بين العلماء، وربما يصل الاختلاف إلى درجة الخلاف والمناكفة، ولهذا فإن ما يصل إليك، هو ما يراه ما سمعه من المرء أو قرأ له، ولنأخذ مثلاً صيام ست من شوال، فبعض المالكية، وغيرهم، لا يرون صيامها، بل إن البعض يكرهون ذلك، وطرح البعض مبررات لا تنفي الحقيقة.
لنأخذ كتاب من أشهر كتب التفسير، إن لم يكن أشهرها، أو في التأريخ، لعالم جليل عفيف وهو الطبري، والذي اعتمد عليه ابن كثير، وغيره، في التفسير والتاريخ، فلو دققنا في بعض القصص التي أوردها، لوجدناها أساطير غير واقعية، مبنية على إسرائيليات أو قصص بعض القصاصين مثل وهب بن منبه، وعبيد بن شريه، وكعب الأحبار، وغيرهم، نقلها عنهم محمد بن السائب، وابنه هشام، وابن إسحاق، وغيرهم في كتبهم، والتقطها من جاء بعدهم دون تمحيص، بمن فيهم الطبري، وها نحن أيضاً نأخذ جزءاً مما يختاره الآخرون من هذه اللقمة السائغة، رغم توفر المعلومة وذكر تباين ما قيل حولها على سطوح البرامج المتاحة على وسائل التواصل، أو المكتبات العامة المنتشرة في كل دول العالم.
مثل ذلك يمكن أن ينطبق على التاريخ القديم، ففي بداية الأمر، ونحو أربعمائة وأربع وخمسين قبل الميلاد، أي قبل أكثر من ألفين وخمسمائة عام، كتب المؤرّخ اليوناني هيرودس كتاباً تاريخياً، ذكر فيه معلومات قيمه عن الفراعنة، وبعده مؤرِّخ مصري في القرن الثالث قبل الميلاد، اسمه مينيتون، ثم مؤرّخ يهودي اسمه يوسيفوس، ومنهم من ترك لقلمه العنان لنسج قصص قد ترتكز على حدث معين بسيط، ثم ينسج حوله الخيال، والمعلومات المغلوطة، وهذا ما بينته الكتابات على أوراق البردي واللوحات الجداريه على جدران القبور، وغيرها من المعالم، والتي لم تكن معلومة أو مقروءة لديهم.
القرآن الكريم، أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، بلسان عربي مبين، فحمله عدد كثير من الصحابة في صدورهم، حرفاً حرفاً، تلاوة، وتجويداً، وبعد فترة وجيزة لا تذكر، تم تدوينه، فأصبح محفوظاً في الصدور، وفي المصاحف، وانتقل من جيل إلى جيل كما هو دون تغيير أو تحريف، حتى يومنا هذا، وبنفس اللغة العربية، فحفظها وحفظته، بينما نجد أن شريعة موسى عليه السلام كما تقول التوراة قد نزلت في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، بينما كتبت بعد ذلك بنحو ألف عام، على مدى مائتي سنه، وتعاقبت عليها اللغات والترجمات فالعبرية التي تتلى بها التوراة الآن لم تكن قد ولدت في زمن موسى عليه السلام لهذا أصابها التحريف، من هنا فإن الحرص على أكل البيض المسلوق، والموز المبشور، ليس به متعة.