د. عبدالحق عزوزي
مُني الائتلاف الحاكم «معا» بزعامة الرئيس إيمانويل ماكرون بخسارة سياسية مدوية وفق نتائج الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية، وخسر الأغلبية المطلقة التي كان يتمتع بها في الجمعية الوطنية. وعلى الرغم من حصول تحالف (معا) على أكبر عدد من المقاعد في الجمعية الوطنية (البرلمان) المؤلفة من 577 مقعدًا، فإنه لم يبلغ العدد المطلوب لتشكيل أغلبية مطلقة، في تصويت شهد أداء قويا من تحالف اليسار واليمين المتطرف. وأظهرت الأرقام النهائية حصول معسكر ماكرون على 245 مقعدًا، وهو ما يقل العدد اللازم لتحقيق الأغلبية المطلقة والذي يبلغ 289 مقعدًا، وكل الأنظار صوب اليمين التقليدي الذي قد ينقذ الحكومة؛ حكومة فقدت ثلاثة من وزرائها انهزموا في الانتخابات؛ كما أن رئيس الجمعية الوطنية ريشار فيران انهزم، دون نسيان رئيس كتلة الجمهورية إلى الأمام كاستانير؛ فيما سجل «التجمع الوطني» اليميني المتطرف فوزًا تاريخيًا في هذه الانتخابات، ليدخل مقر الجمعية الوطنية من بابها الواسع بـ89 نائبًا؛ أما الاتحاد الشعبي اليساري بقيادة جان لوك ميلنشون، فقد بات أول قطب معارض في البلاد بدخوله بـ150 نائبا إلى الجمعية الوطنية.
وأغلب المتتبعين للشأن السياسي الفرنسي يقولون بأن فرنسا ستدخل مرحلة لا يقين وعدم استقرار سياسي؛ فالانتخابات البرلمانية لم تعط الأغلبية لأي حزب، وطبعها تحقيق اليمين المتطرف تقدمًا كبيرًا كما وسمت بانقسام المشهد السياسي إلى ثلاث كتل: الوسط بقيادة إيمانويل ماكرون، واليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان وتحالف اليسار بدءا باليسار الراديكالي وصولا إلى الاشتراكيين، بقيادة جان لوك ميلنشون (الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد).
ومعنى كل هذا الكلام، أن الرئيس ماكرون ولو أوصله الناخبون الفرنسيون للمرة الثانية إلى سدة الحكم، فإنهم لم يعطوه شيكا على بياض؛ وقد عاقب حزبه الناخبون الفرنسيون في هاته الانتخابات وصعبوا عليه الوصول إلى توافقات كانت ستمكنه من تشكيل أغلبية حاكمة ومن تمرير أجندته للإصلاح الاقتصادي، ومن تعميق التكامل مع الاتحاد الأوروبي ورفع سن التقاعد وضخ دماء جديدة في القطاع النووي الفرنسي.
وفرنسا ليست بخير. هذا هو الانطباع السائد في الصالونات الفكرية وفي التقارير المؤسساتية الفرنسية البارزة. فالدولة تعاني أزمة ثقة بين المواطن والدولة، ونتذكر إحدى الأعداد لمجلة لوبوان الفرنسية Le Point حيث عنونت مجلتها: «كيف تولد الثورات، هل نحن في سنة 1789؟»؛ وكما هو معلوم فالثورة الفرنسية اندلعت عام 1789 في مرحلة من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية أثرت بشكل بالغ على فرنسا وعلى كل الدول الأوروبية انهار خلالها النظام الملكي المطلق الذي كان قد حكم فرنسا لعدة قرون في غضون ثلاث سنوات. وخضع المجتمع الفرنسي لعملية تحوّل مع إلغاء الامتيازات الإقطاعية والأرستقراطية والدينية وبروز الجماعات السياسيّة اليساريّة الراديكالية إلى جانب بروز دور عموم الجماهير وفلاحي الريف في تحديد مصير المجتمع. كما تم خلالها رفع ما عرف باسم مبادئ التنوير وهي المساواة في الحقوق والمواطنة والحرية ومحو الأفكار السائدة عن التقاليد والتسلسل الهرمي والطبقة الأرستقراطية والسلطتين الملكية والدينية.
الدولة في تلك الفترة كاليوم عاشت مرحلة من انعدام الثقة، وفي تلك المرحلة كانت الدولة تحت رحمة المستفيدين من اقتصاد الربع الذين يطعمون خزينة الدولة، أما اليوم فالدولة تخضع سياسيا للفرنسيين الذين تقوم بتمويلهم... وحسب العديد من الاستراتيجيين، فكل الفاعلين السياسيين ليسوا في الحركية السياسية الصحيحة وهم غارقون جميعهم في مستنقع الدفاع الظرفي عن النفس....
الملك لويس السادس عشر كان قد خلق نظاما قويا شموليا إقطاعيا. ونفس الشيء يقال عن الجمهورية الخامسة الفرنسية من طرف دو غول De Gaulle: الدولة القوية له... والمصيبة هو أنه عندما تخلق دولة قوية ويحكمها أناس ضعفاء أو لا شرعية لهم. فهنا الكارثة.
هناك مشكل ثقة كبيرة بين الشعب والسياسيين الفرنسيين؛ فالشعب الفرنسي لم يعد يثق فيهم ولا في أفكارهم ولا في إيديولوجيتهم، وكل مرة يحدث زلزالا في توجهاته الانتخابية وفي مصير الدولة الوطنية. ثم المهم من هذا المثال، هو أن مسألة الثقة هي من المحددات التي تطبع مسار تكوين الدولة والمؤسسات... ولئن كانت المجتمعات السياسية مختلفة من قطر إلى آخر، فإن مدى تماسكها وقوتها على رد الرياح العاتية والمياه الأجاج الجارفة، يكمن أولا وقبل كل شيء في الثقة.