د. محمد بن إبراهيم الملحم
أشرت مسبقاً إلى اتجاهين شهيرين في التغيير سأتحدث اليوم عن الأول وهو التغيير من الأعلى إلى الأسفل، ويسمونه الاتجاه التقليدي لأنه هو ما وجد أولاً قبل أن يظهر النوع الثاني والذي يمتدحه علماء التغيير وكتّابه، بل يتطرف أحياناً بعضهم لدرجة اعتبار الثاني (من الأسفل للأعلى) هو ما ينبغي أن يكون الاتجاه الأوحد للتغير مهاجماً الاتجاه الأول ومحذّراً منه بشكل مطلق، ومع أن هذا له ما يبرره، ذلك أن التغيير من الأعلى للأسفل له سلبيات كثيرة كما أن التغيير من الأسفل يتسم بالديمومة والقوة، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يصرفنا عن قيمة التغيير من الأعلى للأسفل فله تطبيقاته واحتياجاته كما سنوضح لاحقاً، وأفضل وصف له أنه تغيير ينبع من مراكز القوى في أعلى المؤسسة وينبغي على جميع العاملين أن ينفذوا هذا التغيير كما وردهم (أي يسمعوا ويطيعوا)، وهو يصدر مفاجئاً للمنفذين فلا تكون هناك مشاورة مسبقة معهم أو أخذ لآرائهم أو ممثلين عنهم، حتى وجود بعض رؤسائهم في اجتماعات صنع القرار ليس هدفه نقل آراء من تحتهم كممثلين لهم، بل هو ليستفيد صنَّاع القرار أو متخذوه من المعلومات التي لدى هؤلاء والتي تساعدهم في تشكيل وتنميط القرار. وأود أن أوضح هنا فرقاً مهماً بين مصطلحين مهمين ذكرتهما الآن وهما «صانع» القرار و»متخذ» القرار فالأخير هو غالباً شخص واحد عليه مسؤولية اعتماد القرار النهائي مثل مدير المؤسسة أو رئيسها الأول أو ربما يكون هو الوزير في وزارته أو الرئيس في شركته (أي الرجل الأول) بينما صانع القرار هو من يقدم فكرة القرار ويصوغها ويشكلها وينمطها لكي يعتمدها متخذ القرار، وغالباً يكون هناك صُنّاع للقرار (أكثر من واحد) يكونوا هم من يعملون بالقرب من الرجل الأول ويعتمد عليهم في اجتماعاته وتفكيره وقراراته، ولذلك قد ينبع قرار التغيير منهم ابتداءً فيقنعوا به المسؤول الأول سواء من خلال فكرة طرأت أثناء اجتماع ما قادتهم في تفاكر جماعي إلى هذا القرار الجديد أو من خلال أحدهم يحمل فكرة القرار الجديد فيعمل على إقناع زملائه (صنَّاع القرار) به قبل أن يأخذوه إلى الرجل الأول، ونستنتج من هذا كله دور صنَّاع القرار وقيمتهم ولهذا حرصت على توضيح هذا الفرق بين المصطلحين لأنه كثيراً ما يرد استخدامهما بطريقة غير دقيقة، حيث يعبر بعضهم عن متخذ القرار بلفظ «صانع القرار» مع الأسف.
إن أفضل نمط يمثّل هذا النوع من قرارات التغيير هو ما يحدث في بيئة الإدارة العسكرية حيث تقوم على بث الأوامر وتنفيذ الجنود لهذه الأوامر، ولهذا يستخدم بعض المسؤولين هذا التعبير في وصف من يعملون معهم بتنفيذ مخلص لأوامر التغيير الجديدة كما هي بأنهم «جنود» مخلصون، ودعونا الآن نتفهم هل هذا النوع من التغيير جيد ومقبول، والواقع أن الإجابة نعم إذا كان في محله ومجاله، فليست كل قرارات التغيير يلزمها المشورة وأخذ آراء المنفذين أو توجهاتهم والسير بمقتضاها كما يقتضي الاتجاه الثاني (من الأسفل للأعلى)، ومع أن هذا غالباً هو ما يجب أن يكون، ولأغلب قرارات التغيير، بيد أن هناك أنواعاً من قرارات التغيير لا تصلح لها «الاستشارة» والتماشي مع رغبة عوام الناس، ومن أمثلتها نقل مبنى المؤسسة فلا يمكن أن يجمع الكل على ذلك لأن القرار الجديد سيجعل سكن بعض الموظفين أقرب مما يجعلهم مؤيِّدين كما أنه سيجعل سكن البقية أبعد (والذين ربما كانوا بالنسبة للمبنى القديم أقرب) وهؤلاء سيعارضون بالطبع، إن هذا المثال المفرط في البساطة يكشف لك كيف له أن يتكرر في أمور أعمق من ذلك ولكنها تحمل نفس الصفة، سأقدم مثالاً آخر وهو تلك القرارات التي تنطوي على فائدة ذات قيمة على المدى البعيد لكنها ربما يترتب عليها بعض الخسائر في المدى القريب، فهذه لا يتوقع من المستفيدين أو المنفذين للقرار أن «يتفهموا» تلك الفوائد الإستراتيجية بعيدة المدى أو المنافع التي ربما تكون متعلقة بقيم مجتمعية أو تأسيس ممارسات صحية تنموية، ولكنهم سينظروا فقط إلى ما يتعلّق بهم كأشخاص وما يتطلبه القرار منهم من «تضحيات»، لذلك يكون أمام متخذ القرار تنفيذ التغيير من الأعلى للأسفل كخيار لا مفر منه. ومن أمثلة هذا الأمر قرار الفصول الثلاثة الذي اتخذته الوزارة مؤخراً فهو قرار إستراتيجي له أهداف تنموية ونوعية على المدى البعيد (بغض النظر عن موافقتي الوزارة لكل تلك الأهداف) لكنه لا يمكن أن يكون إلا من الأعلى للأسفل ولو حدث أن استشارت الوزارة منسوبيها في أمره قبل إطلاقه فلن يوافقوا بالطبع، ليس لانتفاء المنافع التنموية والإستراتيجية لمصلحة التعليم نفسه (حتى لو شرحت لهم ووضحت) ولكن لمصادمته مساحة الراحة لدى المستفيدين وانتزاعه لما كانوا يملكونه من قبل، وللحديث بقية.