م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1 - الأفكار الرائدة، والابتكارات الجديدة، والموارد الطبيعية الثمينة، والقيادات الرشيدة لا تبني وحدها الحضارة بل تؤسس لها.. فالحضارة ما هي إلا نتيجة للنهضة.. والنهضة ما هي إلا نتيجة للاستقرار.. والاستقرار ما هو إلا نتيجة للحُكْم الرشيد.. والحُكْم الرشيد هو الذي يستثمر الموارد الطبيعية للبلاد ويقودها بإرادة النهوض، ويهيئ المجتمع لقبول الأفكار الرائدة والتعامل مع الابتكارات الجديدة، ويطور من ثقافة مجتمعه، ويجعله يتطلع إلى ممارسة كل حديث ينمي من قدراته ومستوى معيشته.. ويتكيف مع معطيات التحضر بلا مقاومة ويستقبله بترحيب.. هنا ينهض المجتمع ويصبح جاهزاً للحضارة.. فأفراد المجتمع بعمومه -كما يرى المفكر (إبراهيم البليهي)- لا يعون أسباب نهضتهم.. فهم محمولون في مَرْكَب الحضارة والمركب يسير بهم من غير أن يعرفوا كيف تكونت هذه المركبة ولا يعرفون إلى أين تسير.. هم فقط ركاب.
2 - وبقدر ما أن عموم أفراد المجتمع لا يعون أنهم على مركب يسير بهم في طريق التحضر فإنهم أيضاً لا يعون إن كانت تلك المركبة تسير بهم في طريق التحجر والتخلف.. هم مجرد ركاب في تلك المركب لا يدرون هل هي تسير إلى الأمام أم إلى الخلف! لأنهم مبرمجون تلقائياً بواسطة التكيف والتعود وليس بواسطة التفهم والإدراك.. فهم كما يقول الأستاذ (البليهي) كقطرات الماء في النهر الجاري.. فلولا هذه القطرات لما كان النهر.. لكن لا أهمية لأية قطرة إلا بكونها ضمن النهر.. ثم يزيد الأستاذ (البليهي) أن عموم الناس لا يعني غير المتعلمين بل قد يشمل حتى المتعلمين تعليماً عالياً.. فإذا كان المركب يسير نحو الازدهار والتحضر فإن الأفواج الذين تخرجهم الجامعات والمعاهد يتولون تجسيد الأفكار والرؤى الريادية التي تَقَبَّلها المجتمع.. أما إذا كان المركب سائراً عكس اتجاه التحضر والازدهار فسيكون عملهم محكوماً باتجاه حركة المجتمع في ذلك المركب السائر إلى الوراء.. وهنا سيكون إسهامهم في تكريس الواقع وليس تغييره.. أي في تكريس التخلف والرجوع إلى الوراء.
3 - يرى المفكر الإنجليزي (أرنولد توينبي) أنه لقيام حضارة لا بد أن يواجه المجتمع تحدياً معقول القوة؛ ليس شديد القسوة فيمحقه وليس بالضعيف فيتعايش معه الناس.. بل يجب أن يكون من القوة بحيث يحفز أفراد المجتمع على مقاومته والتفكير في حلول المواجهة وتجاوزه.. وهذا هو العنصر الأهم للابتكار والنمو والتطوير الذي لا يتحقق بناء الحضارة إلا به.. هذا على مستوى المجتمعات وهو ذات الواقع مع الأفراد.. فمن المحال أن يفكر المرء بتغيير ذاته وتطوير واقعه إلا بهزة فكرية مُزَلْزِلة توقظه من سباته، وتخرجه من راحة الغفلة، والسير مع السائد والمعتاد، وتنقذه من البرمجة التي تلقاها منذ طفولته.. أو كما يقول الأستاذ (البليهي): إن البرمجة التلقائية هي التي تحدد هوية الفرد حسب البيئة التي ينشأ فيها.. فالإنسان لا يولد بماهية أو هوية محددة.. إنما يتقولب تلقائياً في طفولته.. لذلك فهو لا يرى أي شيء إلا وفق القالب الذي تشكل به في طفولته.. من هنا لا يمكن أن يحصل التغيير في الفرد إلا بهزة عظيمة توقظه وتعيد تشكيل رؤيته.