د.عبدالله بن موسى الطاير
في عام 1990م، أعلن الكاتب والطبيب النفسي الأمريكي خريج جامعة هارفارد تشارلز كراوثامر عن «لحظة أحادية القطب»، معتبرا أن الولايات المتحدة الأمريكية في مركز القوة التي لا يمكن منازعتها. ربما لم يتفق معه العديد من المتخصصين في العلاقات الدولية الذين بدت لهم كلمة «لحظة» على أنها «وهم»، فالواقعية الجديدة في العلاقات الدولية تؤكد على أن «القوة غير المتوازنة للنظام الدولي أحادي القطب، يجب أن تحفز ظهور قوى عظمى جديدة، والعودة السريعة إلى سياسات توازن القوى، من أجل الحد من هيمنة الدولة البارزة، وإعادة النظام إلى حالته «الطبيعية» المتمثلة في تعددية الأقطاب». وهذا يعني بالنسبة لهم أن طبيعة العلاقات الدولية هي التعددية وليس الأحادية القطبية.
لم يكن لدى المناهضين للتفرد الأمريكي الغربي (الليبرو- ديموقراطي) بالقرار العالمي سوى تعليق الآمال على وريث الاتحاد السوفيتي (روسيا) وعلى الصين، القوة الاقتصادية الصاعدة والطامحة. إلا أن هناك من يرى أن محاولة تقديم الصين وروسيا لإحداث التوازن قد أتى «بنتائج عكسية»، فقد شكل تهديدا لجيران الصين وروسيا مما أثار «ردود فعل قوية في شرق آسيا وأوروبا لاحتواء» الخطر الصيني الروسي على حلفاء أمريكا في آسيا وأوروبا، وعززت تلك المخاوف «أنظمة التحالف التي تقودها الولايات المتحدة في شرق آسيا وأوروبا من أجل الحفاظ على الوضع الإقليمي الراهن. لذلك فإن الولايات المتحدة هي المستفيد الاستراتيجي الرئيسي من التوازن الذي قد تقوده الصين وروسيا، والذي من المرجح أن يؤدي إلى «لحظة أحادية القطب» طويلة.
المثال واضح في الحرب الروسية الأوكرانية حيث توحدت أوروبا جميعها خلف القيادة الأمريكية مما يدل على أنه بالتوازي مع الرغبة الطبيعية في تعدد الأقطاب الموجِهة لمصالح العالم، هناك مخاوف تدفع بتماسك القطب الأمريكي الأوحد، وهو ما قد يؤدي إلى تمديد ولايته عقودا قادمة، على الرغم من أن الكثيرين من المراقبين يرون أن هيمنة القطب الأوحد منذ عام 1990م قد طال أكثر من اللازم، وتجاوز العديد من المتاعب التي كادت أن تعجّل بإحالته إلى التقاعد، مثل الأزمة الاقتصادية عام 2008، والحرب على الإرهاب، وتبعات ما يسمى الربيع العربي، وانسحاب أمريكا من أفغانستان والعراق وسوريا، والتلويح بهجران الشرق الأوسط.
صحيح أن انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة أديا إلى تغيير النظام الدولي الذي توج الولايات المتحدة قطبا أوحد، باعتبارها القوة العظمى المتبقية في العالم، وحرر الانهيار السوفيتي المفاجئ عشرات الدول من الهيمنة السوفيتية، تلك الدول هرولت إلى إبرام تحالفات جديدة من أجل الحفاظ على استقلالهم غير المتوقع، وتعزيز سيادة دولهم، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية قبلة مناسبة لإبرام تحالفات الدول المنعتقة للتو من قبضة الاتحاد السوفيتي. لقد عززت تلك اللحظة التاريخية التفاؤل في الغرب بقيادة أمريكا على قدرتهم في ضبط شؤون العالم، وتوجيهه بالطريقة التي يرونها مناسبة، وبخاصة أن هنري كسينجر قد ذكر في كتابه «السياسة الخارجية الأمريكية» أن أمريكا، لا تملك سياسة خارجية، وإنما تملك ثقافة وأسلوب حياة مناسبان للبشرية، ولديها القدرة على فرضهما، وأن الثقافة الأمريكية وأسلوب الحياة الغربي هما اللذان هزما الاتحاد السوفيتي.
جرّبت البشرية في القرن العشرين عالما يقف على قدمين، وكان الشريك الرئيسي، وأعني به الاتحاد السوفيتي، قد أقدم على تصنيف دول العالم الثالث إلى رجعية؛ وهي تلك المتحالفة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتقدمية؛ وهي تلك التابعة له، وصدرت قرارات الأخير إلى الدول «التقدمية» باستهداف أنظمة الدول «الرجعية» بقلب أنظمة الحكم فيها، وبخاصة الممالك، وفي بلاد العرب نفذ البعثيون والقوميون العرب التعليمات. وعندما آل أمر العالم إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1990م استهدفت الدول الحليفة بتغيير أنظمة الحكم فيها واستخدمت لذلك الإعلام، وتقارير حقوق الإنسان ودعاوى الحريات والديموقراطية والتعددية، ووصل الاستهداف ذروته فيما يسمى الربيع العربي.
وبعيدا عن السياسة، وفيما لو صدقت نبوءة نظرية العلاقات الدولية، وعاد العالم ليقف على قدمين، هل سنشهد هجرة جماعية لحلفاء الغرب باتجاه روسيا أو الصين من أجل حماية استقلالهم وسيادتهم والمحافظة على أنظمتهم السياسية تماما كما فعلت الدول المستقلة عن الاتحاد السوفيتي مع الفارق؟