الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
انتشرت مؤخرًا بعض الأساليب التسويقية للأوقاف، وشاهدنا منها الكثير في شهر رمضان بحاجة لمراجعة فقهية. مثلاً : صدقة ليلة القدر؛ فاعل خير تصدّق عن كل من نشر المقطع، إيقاف ما ليس بأصل، حتى في جواز عين الوقف من عدمه، كل هذه بحاجة لمراجعات فقهية، وليس معنى ذلك المطالبة بالتضييق، ولكن القصد المحافظة على مصداقية العمل وتحكيمه شرعيًا.
وقد نقلت «الجزيرة» تلك التساؤلات المتداولة لفضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن محمد الطيار، المفوض بالفتوى بمنطقة القصيم، وذلك لمعرفة الرؤية الفقهية حول ذلك، وكانت إجابة فضيلته على النحو التالي:
- أولاً: الذي يظهر لي - والله أعلم - أن من ينشر هذه المقاطع وغيرها لا يقصد منها أنها تكون وقفًا لمن يروّجها ويسوّق لها، بل قصده أن تكون صدقة عنه أو عن أبويه، وغير ذلك.
ثانيًا: إن كان مراد من يقوم بذلك أنها صدقة، فالصدقة إما أن تكون صدقة جارية، أو غير جارية، والصدقة الجارية هي التي يستمر ثوابها بعد موت الإنسان، وأما الصدقة التي لا يستمر ثوابها - كالصدقة على الفقير بالطعام فليست صدقة جارية.
فمثلاً: تفطير الصائمين وكفالة الأيتام ورعاية المسنين - وإن كانت من الصدقات - لكنها ليست صدقات جارية، ويمكنك أن تساهم في بناء دار لليتامى أو المسنين، فتكون بذلك صدقة جارية، لك ثوابها ما دامت تلك الدار ينتفع بها.
وأنواع الصدقات الجارية وأمثلتها كثيرة، منها : بناء المساجد، وغرس الأشجار، وحفر الآبار، وطباعة المصحف وتوزيعه، ونشر العلم النافع بطباعة الكتب والأشرطة وتوزيعها؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ : عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أو بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أو نَهْرًا أَجْرَاهُ، أو صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ) رواه ابن ماجه (رقم / 242) قال المنذري في « الترغيب والترهيب « (1 / 78) : إسناده حسن. وحسنه الألباني في» صحيح ابن ماجه.
ثالثًا: اختلف الفقهاء في الصدقة الجارية هل هي الوقف أم هي أعم من مفهوم الوقف على قولين:
القول الأول: أن الصدقة الجارية هي الوقف الوارد في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (إذَا مَاتَ الإنسان انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلا مِنْ ثَلاَثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) رواه مسلم (1631).
القول الثاني: أن مفهوم الصدقة الجارية أعم من مفهوم الوقف؛ لأن الوصية بالمنافع يصدق عليها أنها صدقة جارية، ومفهومها مغاير لمفهوم الوقف، وتخصيص العلماء لمفهوم الصدقة الجارية في حديث (إذَا مَاتَ الإنسان انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلا مِنْ ثَلاَثٍ) بالوقف لا يستلزم أن الصدقات غير الوقف لا تدخل في عموم الصدقة الجارية مطلقًا.
ومع أن الحديث جاء بلفظ الصدقة الجارية؛ فإنه من المتفق عليه بين العلماء أن ثوابها يجري لصاحبها كجريان ثواب الوقف.
رابعًا: بناء على ما ذكرناه يمكننا الجواب على ما جاء في السؤال في النقاط التالية :
1 - قول السائل : قول بعضهم (صدقة ليلة القدر) :
الجواب : تحري الصدقة ليلة القدر، ذهب بعض أهل العلم إلى عدم مشروعيته وليس للصدقة فيها زيادة أجر.
قال شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله- في اللقاء الشهري (71 / 30) : (ثانيًا : إذا ثبت أنها ليلة القدر، ولن يثبت -اللهم إلا بما يشاهد من قرائن الأحوال ولكنه لا يتيقن- فلا يخصص إلا ما خصصه الشارع وهو القيام، فليس للصدقة فيها زيادة أجر، ولا للعمرة فيها زيادة أجر، وهذه مسألة مهمة). انتهى.
وقال أيضاً في الشرح الممتع على زاد المستقنع (6 / 494) : (لأنه تخصيص لعبادة في زمن لم يخصصه الشارع بها، والذي حث عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة القدر هو القيام الذي قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه: (مَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ) أخرجه البخاري (1901)، ومسلم (760). انتهى.
وعلى هذا القول : لا ينبغي نشر المقاطع التي تحث على تخصيص الصدقة بليلة القدر.
2 - قول السائل : قول بعضهم (فاعل خير تصدق عن كل من نشر المقطع).
الجواب : ما يكون من التسويق والترويج للأوقاف الخيرية من نشر مقاطع لها أو نشر المقاطع الدعوية ذات المضمون الحسن الموثوق، لاريب أنه من العمل الصالح المبرور - إن شاء الله - ، ويشمله الفضائل الواردة في نشر العلم، ودلالة الناس على الخير، وهو من أعمال القرب التي يتعدى نفعها ويجوز أخذ الأجرة عليها، لكن لا يكون بهذا الأسلوب.
ونشر المقاطع الدعوية الصحيحة، التي فيها فائدة، ونفع، وتزداد فائدتها بنشرها وتكرارها، لاحرج فيه، ما دام قربة لله - عز وجل - وفيه نفع للمسلمين.
جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته التاسعة عشرة في 26 / 4 / 2009م في وقف النقود، ما نصه :
1 - وقف النقود جائز شرعًا؛ لأن المقصد الشرعي من الوقف وهو حبس الأصل وتسبيل المنفعة متحقق فيها؛ ولأن النقود لا تتعين بالتعيين وإنما تقوم أبدالها مقامها.
ويرجع في ذلك إلى شرط الواقف، قال ابن قدامة في العمدة (69) : (ويرجع في الوقف ومصرفه وشروطه وترتيبه وإدخال من شاء بصفة وإخراجه بها وكذلك الناظر فيه والنفقة عليه إلى شرط الواقف) انتهى.
وكذا نشر المقاطع الدعوية ذات المضمون الحسن الموثوق،
لاريب أنه من العمل الصالح المبرور - إن شاء الله - ، ويشمله الفضائل الواردة في نشر العلم، ودلالة الناس على الخير، وقد يصل ذلك لمئات من الناس بضغطة زر واحد، ومعلوم أن الدال على الخير كفاعله، وأن من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، كما روى مسلم (2674) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (مَنْ دَعَا إلى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا).
وروى مسلم عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، رضي الله عنه، أن رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال : (مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ) أخرجه أحمد (22405)، وابن حبان (289)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (116).
فإذا كتب المسلم نصيحة، وأرسلها إلى مائة من الناس، فعمل كثير منهم بنصيحته، كان في ذلك أجرٌ عظيم له.
وإن لم تكن هذه المقاطع بمعنى الوقف، إلا أنهما يشتركان معها في الفضل، وجريان الأجر واستمراره حتى بعد وفاة صاحبه، كما أخبرنا بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : (إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أو بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ)، رواه ابن ماجه (242)، وحسّنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (200).
وتعليم العلم يكون بنشره بالتدريس أوبالتأليف أوبالنسخ.
ومما يؤسف له أن بعض الناس قد يضع محفزات للنشر، ويخلط هذا العمل الصالح بآخر سيء، وهو الوقوع في نوع الدجل والباطل، كقوله : إذا أرسلتها سوف تسمع خبرًا سعيدًا، أو حمَّلتك هذه الأمانة أن ترسلها وتنشرها، أو أنك ستأثم إن لم تفعل ذلك، أو من لم ينشرها سيحصل له كذا وكذا، وهذا لا يجوز، وقد ظن هؤلاء أنهم بهذا يحملون الناس على نشر الخير، عن طريق ترغيبهم وترهيبهم، لكنهم أخطأوا وتجاوزوا، وكان عليهم أن يقتصروا على ما ورد به الشرع، وفيه الغنية ولله الحمد، كقولهم : إن من نشر هذا الخير، فهو على خير، ويرجى له حصول الأجر.
3 - قول السائل : (إيقاف ما ليس بأصل) :
الجواب : الوقف هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، والمراد بالأصل : ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالدور والدكاكين والبساتين ونحوها, والمراد بالمنفعة : الغلة الناتجة عن ذلك الأصل كالثمرة والأجرة وسكنى الدار ونحوها.
وهل يجوز وقف المنفعة دون وقف العين؟
الجواب : اختلف في هذه المسألة أهل العلم فالجمهور اشترطوا أن يكون الموقوف عينا ينتفع بها مع بقاء عينها.
وأجاز وقف المنافع المالكية، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهو الراجح لعدم وجود فرق بين وقف الأعيان ووقف المنافع، فكلاهما من الأموال، وكلاهما تصح الوصية بهما، وقد حثت الشريعة على الوقف، فلا يصح تقييد الوقف إلا بدليل، وقد قال تعالى : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ..) الحج (77)، والخير لفظ عام.
وعليه : فيجوز وقف المنافع عموماً كما لو أوقف الملكية الفكرية وبراءة الاختراع والتأليف وحق الابتكار والاسم التجاري والعلامة التجارية ونحو ذلك من المنافع.
4 - قول السائل : جواز عين الوقف من عدمه.
لعل المراد بالسؤال هو حكم وقف الأشياء التي تفنى؟ وهي ما كانت فائدتها لا تتم إلا بفنائها، مثل وقف الشمع لإشعاله، ووقف الزيت للاستضاءة به، ووقف الطيب لشمّه، ووقف الوقود لتشغيل المعدات به، ونحو ذلك.
وقد أجاز هذا الوقف شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، وهو قول عند المالكية، خلافًا للمشهور من المذاهب الأربعة، وهو الراجح؛ لعموم الأدلة الدالة على الوقف، ولا يخرج منها شيء بغير دليل، ولعموم أدلة فعل الخير، ولصحة وقف الحيوان وهو فان، ووقف الأشجار وهي تفنى ووقف المنافع وهي تفنى باستيفائها.. هذا والله أعلم.