يرجع الاهتمام العلمي الحقيقي بعملية التنشئة الاجتماعية أواخر الثلاثينيات, وأوائل الأربعينيات الميلادية من القرن الفائت, وذلك عندما نشر عالم الاجتماع الأمريكي (روبرت بارك) بحثه عن التنشئة الاجتماعية سنة 1939م, باعتباره إطاراً مرجعياً هاماً لدراسة المجتمع, و يرى أنها عملية تفاعل تتم من خلالها تحويل الفرد من كائن بيولوجي إلى كائن اجتماعي, ومعروف في أصل عملية التنشئة الاجتماعية أنها عملية تعليم, لأن الفرد يتعلم منذ ولادته من أسرته وبيئته الاجتماعية عادات وقيماً وتقاليد حتى يصبح عضواً فاعلاً في مجتمعه وبيئته التي يعيش فيها, ويكتسب المعايير والقيم والمهارات الضرورية ويتشرب ممارساتها من سلوكيات اجتماعية تنمو معه هذه العمليات وتأخذ شكل النمط السلوكي المتبع.
ويؤكد علماء الاجتماع التربوي، أن ما يتعلمه الطفل في مراحل عمره المبكرة يستمر معه، ويكون له أثر فعّال في حياته، وكما يقال في المثل العربي (العلم في الصغر كالنقش في الحجرِ), أي أن العلم في الصغر يكون ثابتاً وله أثر وعملية التنشئة الاجتماعية تبدأ من بداية وجود الفرد، من ولادته مباشرة وتبقى طول حياته.
ولا مناص أن عملية التنشئة الاجتماعية تتضمن عدة أساليب متنوعة كي تؤدي الأسرة المعاصرة دورها التربوي في عملية التطبيع الاجتماعي حسب توقعات المجتمع وبفاعلية, إذ توفرت نماذج لهذه الأساليب في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة التي تعتبر من الأساليب التربوية المعاصرة, وهذه الأساليب تتمثل في الآتي:
1- أسلوب القدوة الحسنة:
وهي من أهم الأساليب في التربية, ومن أنجح الوسائل المؤثرة في إعداد الناشئة خلقياً ونفسياً وصحياً وعقلياً وعاطفياً واجتماعياً, ولها أهمية كبرى في تربية الفرد وتنشئته على أساس سليم في كافة مراحل نموه, لأن الأفراد لديهم حاجة نفسية إلى أن يشبهوا الأشخاص الذين يحبونهم ويقدرونهم، وأن هذه الحاجة تنشأ بادئ الأمر من خلال الأطفال لوالديهم وتقمصهم لهم.. ولأهمية القدوة في بناء الفرد وإعداده فقد أكد القرآن الكريم أهمية القدوة في تقرير مصير الإنسان تأكيداً قوياً, وهو يدعو المسلمين إلى أن يدرسوا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فيتخذونها قدوة وأسوة لهم.
يقول تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) سورة الأحزاب.
ومن هنا كانت القدوة عاملاً كبيراً في صلاح الأجيال, أو إفسادهم فالولد الذي يرى والده يترك الصلاة يصعب عليه اعتيادها, والذي يرى والده يكذب يصعب عليه تعلم الصدق, والذي يرى والده يغش يصعب عليه تعليم الأمانة.
فالأب الذي يصبح كذاباً ويخدع غيره بكذبه وخداعه فإن أبناءه وتلامذته ومعاشريه يقلدونه ويتعلمون منه أساليب الكذب ووسائل الخداع ويحاكونه في ذلك ويتبادلونه كذباً بكذب، وخداعاً بخداع, أي إن ما يكتسبه الفرد من عادات مرغوب فيها, أو غير مرغوب فيها يتوقف على نوع القدوة والأسوة التي تعرض له أثناء اندماجه وتفاعله مع أسرته ومجتمعه.
2- أسلوب الترغيب والترهيب:
الترهيب والترغيب من الأساليب الهامة لتنمية السلوك وتهذيب الأخلاق وتعزيز القيم الاجتماعية, فالنفس البشرية ترغب فيما يحقق لها السعادة والسرور. وترهب مما يسبب لها الشقاء والتعاسة, ويؤكد عالم الاجتماع العربي ابن خلدون -رحمه الله- أنه ينبغي عدم التطرف ولابد من التوازن باستعمال الأسلوبين في العملية التربوية الاجتماعية لتحقيق أفضل النتائج في التربية, فالفرد إذا استثير شوقه إلى شيء ما زاد اهتمامه به فسرعان ما يتحول هذا الشوق إلى نشاط يملأ حياته أهمية وعملاً وتعلقاً بما تشوق إليه، ورغبة في الحصول عليه, وفي المقابل فإن الخوف من الشيء، والتنفير منه يجعل الفرد يهابه ويبتعد عنه.
وقد أشار القرآن الكريم إلى أسلوب الترغيب والترهيب وإلى كيفية استخدامه بما يحقق الغرض منه، ونلمح في هذه الآية الكريمة الترغيب الذي يثير الرجاء في النفس, ويدفع اليأس ,ويجدد الأمل ويثير التطلع إلى الأفضل، قال تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (10-12) سورة نوح.
والتشجيع ينقسم إلى قسمين، مادي ومعنوي، فالتشجيع المادي كالجوائز والهدايا والنقود. والتشجيع المعنوي كالثناء والمدح والإطراء والشكر. والنظر بعين الرضا والاستحسان والتشجيع المعنوي أفضل استخداماً من التشجيع المادي باعتبار أن الأول يولد الرغبة والميل إلى الأعمال التي يشجع عليها الفرد أكثر من الثاني. كما أن الأول يتطور مع مراحل النمو العقلي حتى يصل إلى أعلى درجاته وهي الإقدام على أعمال الفضيلة والقيم النبيلة.
3- أسلوب التوجيه والموعظة الحسنة:
غالباً ما يكون لأسلوب الموعظة الحسنة والتوجيه السليم المبني على علم وحكمة ووعي وفهم أثرٌ فعالٌ ناجحٌ في العملية التربوية لأنه يتوافق مع الفطرة والنفس البشرية التي تحب الخير وتحرص عليه. وهذا الأسلوب - أسلوب الموعظة الحسنة - لاشك من أساليب الرسل والأنبياء في تبليغ دعوتهم إلى الله عزوجل, وأكد القرآن الكريم أهمية الموعظة في أكثر من موطن. لما لها من تأثير كبير على الفرد والأسرة إذا وجدت لها نفساً صافيةً، وقلباً واعياً.
شروط تطبيق أسلوب الموعظة الحسنة:
أ- الأسلوب الرقيق الذي يستميل قلوب النشء أثناء النصيحة.
ب- أن تقترن الموعظة بالشعور بالمحبة والعطف عليهم.
ج- يختار الوقت المناسب الذي تكون النفوس فيه هادئة.
د- عدم التطويل الممل في الموعظة, أو التكرار الزائد.
هـ- المبادرة بالموعظة عندما يلحظون انحرافاً في سلوك الأولاد.
ولذلك ينبغي الحث على النصيحة, واستخدام الحكمة والموعظة الحسنة والأسلوب الأفضل في تقديمها انطلاقاً من قوله تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) سورة النحل.
4- أسلوب ضرب الأمثال:
هذا الأسلوب له أثره الفعّال على عواطف الأفراد وسلوكهم, ويّعد من أكثر الأساليب شيوعاً، وقد قيل: «إن الأمثال أوقع في النفوس, وأبلغ في الوعظ, وأقوى في الزجر, وأقوم في الإقناع».
ولهذا نجد أن الله سبحانه وتعالى أورد ذلك الأسلوب في أكثر من موطن، وفي عدة أمور في كتابه العظيم.
ولأسلوب ضرب الأمثلة فوائد عدة نذكر منها ما يلي:
1- تقريب المعقول إلى المحسوس فيتقبله العقل، ويدركه ويفهمه، فبالأمثال يستطيع الأب أن يقرب المعنى إلى الإفهام, أو المربي.
2- توضيح الفضائل للأولاد.
3- كشف الحقائق, وإيضاح المعنى في عبارة مجزية بليغة.
4- ضرب الأمثال من أنجح الوسائل في ترغيب الأبناء في الأشياء التي يريد المربي ترغيبهم فيها. كما أنها وسيلة نافعة للتنفير من الأشياء التي لا يرغب الأب في تنشئة أولاده عليها. يقول تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) سورة الحشر.
ولذلك عند استخدام هذا الأسلوب يجب أن يستعملها الأب, أو المربي بحكمة وأن تكون معانيها على مستوى فهم الطفل التلميذ وعلى قدر عقولهم.
5- أسلوب القصة:
القصة أجدى نفعاً, وأكثر فائدة من أساليب التلقين والإلقاء نظراً لما جبلت عليه نفوس الأطفال البالغين والراشدين من ميل إلى سماع الحكاية والإصغاء إلى رؤية القصص.
في هذا السياق، يشير أحد الباحثين بشأن القصة: أن أحداث القصة وخيالاتها وتصوراتها كانت أقوى قوة دفعت الإنسان إلى تحريك لسانه, وإلى إيقاظ ملكته ,وإطلاق جميع القوى الكامنة فيه.
ولا مناص من أن القرآن الكريم استخدم الأسلوب القصصي في عدة مواضع ,ومنها على سبيل المثال لا الحصر قصص الأنبياء، وقصة أصحاب الكهف، وقصص قوم عاد, وقوم ثمود, وقوم نوح، وقصة يوسف وغيرها من القصص التي تساهم في ضبط السلوك وتنمية القيم الأصيلة في نفوس ووجدان الأبناء. يقول تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) سورة يوسف.
ولأسلوب القصة شروط منها توجيه الأولاد إلى قصص القرآن الكريم، والتعرف عليها مثل قصص الأنبياء عليهم السلام.
وكذلك ينبغي على الآباء والأمهات والمربين أن يقصوا على الأولاد بعضاً من تجارب حياتهم، وأيضاً استغلال بعض البرامج الفنية الهادفة التي تعرضها وسائل الإعلام التقليدية والرقمية وأن يجذب الأولاد إليها لأنها كأسلوب تربوي تساعد في ترسيخ القيم الدينية الفضيلة وتنمية الاتجاهات التربوية والاجتماعية الاصيلة.
6- أسلوب الممارسة والتدريب (العادة):
يتمثل في القيام بعمل من الأعمال عدة مرات, وبالتكرار يسهل على الفرد ذلك العمل, ويزيد ميله حتى يصبح هذا الميل عادة, ولذلك يقول علم النفس المعرفي أن أي سلوك يمارس خلال 21 يوماً يتحول إلى عادة..! وهذا الأسلوب..أسلوب التربية الأسرية بالعادة من الأساليب الفاعلة, فهي تؤدي مهمة في حياة البشرية, وتوفير قسطٍ كبيرٍ من الجهد البشري بتحويله إلى عادة سهلة وميسرة ينطلق هذا الجهد في ميادين جديدة من العمل والإنتاج والإبداع.
ولا ريب أن الإسلام يستخدم الممارسة وسيلة من وسائل تنشئة الفرد على تلك التكاليف الإسلامية ,والقيم والآداب الإسلامية، وعلى الوالدين أو المربين أن يستخدموا هذا الأسلوب التربوي الناجع في كافة جوانب تنشئة وتربية الفرد, أي أن التربية بالممارسة لا تقتصر على الشعائر التقليدية وحدها, ولكنها تشمل كل أنماط سلوك الحياة, وكل الآداب والأخلاق:مثل آداب التحية، وآداب المشي، وآداب الشرب، وآداب قضاء الحاجة، وآداب زيارة المريض.. الخ.
7- أسلوب الحوار والنقاش:
يسهم أسلوب الحوار في تعزيز عملية التطبيع الاجتماعي, ويزيد بالتالي من احتمالات استمرار تأثير المواجهات التربوية داخل البناء الأسري. ومعنى الحوار أن يتناول الحديث طرفان, أو أكثر عن طريق السؤال والجواب بشرط وحدة الموضوع, أو الهدف فيتبادلان النقاش حول أمر معين, وقد يصلان إلى نتيجة, وقد لا يقنع أحدهما الآخر.
ويّعد هذا الأسلوب الحواري من أنجح الأساليب التربوية الحضارية, إذ يقوم الحوار على خطوات منطقية صحيحة يقابلها العقل.
كما أن الحوار داخل الأسرة يعطي نتائج إيجابية, ويحقق الاستقرار باعتبار أن الحوار المنزلي أساس الاستقرار, ومعروف أن الأسرة التي تقوم على مبدأ الحوار والنقاش في أجواء ديمقراطية هي الأسرة الأكثر استقراراً وتسودها روح المودة والمشاعر المتبادلة.
فقد استخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الأسلوب في حياته الأسرية وفي دعوته المحمدية, ولذلك فإن أسلوب الحوار هو الأسلوب الأكثر نجاحاً في إيصال الرسالة التربوية، كما أن القرآن الكريم ذكر في مواضع حوار بعض الأنبياء مع الكفار والمشركين، ومنها حوار سيدنا موسى-عليه السلام- مع فرعون على سبيل المثال.. وغيرها من حوار الأنبياء مع أقوامهم في رسالة تدل على الرقي والرقة واللين في استخدام ألفاظ محببة إلى النفس البشرية تسعى إلى تحقيق الوفاق بينهم وبين أقوامهم حتى يعبدوا الله تعالى وحده لا شريك له لتنهض أنفسهم بما هو خير لهم في الدنيا والآخرة.
وخلاصة القول إن الحوار المفتوح نقطة تحول في بناء أسرة متماسكة ومترابطة يسودها التفاهم والتآلف ويغمرها الحب والوئام, كما أنه أفضل سبيل نكسب من خلاله ثقة الأبناء ونؤصل به علاقتنا معهم مما يجعلنا على دراية بكل تفاصيل حياتهم واهتماماتهم وبالتالي يمكننا تقديم النصح والتوجيه التربوي لهم في الوقت المناسب وبالطريقة المؤثرة عبر ثقافة الحوار ومبادئه الحضارية.
المراجع:
1- خالد الدوس, في علم الاجتماع التطبيقي, دار الزهراء, الرياض,2022.
2- خالد الدوس, علم اجتماع البيئة, مكتبة الرشد,الرياض,2020.
3-فاتن عزازي، علم الاجتماع واجتماعيات التربية، دار الزهراء، الرياض، 2012،.
4- إسماعيل كتبخانة، أسس علم الاجتماع، إشراقات للنشر والتوزيع، جدة، 2003
** **
خالد الدوس - باحث متخصص في القضايا الاجتماعية