حين صعد جيلان إلى سيارة أخيه غير الشقيق طلال، لم يكن قد تجاوز التاسعة من العمر، لينقل من الحياة الطبيعة في أحضان أهله إلى قدر جديد مختطفًا في أحواش العفن، والعبودية، والإجرام، كان وعده لوالدته أنه سوف يعود بعد خروجه من منزلهم في مدينة أبو عريش، أخر ما تبقى من طفولته بين أمه وأهله، وكان مصيراً آخر بانتظاره في تلك الأحواش التي اختلط فيها الحبس والاغتصاب، مع الحنان والحب،حيث سيعيش بقيّة حياته متنقلًا من حوشٍ إلى آخر، وقد غدا شابًا بعد أن عزل عن العالم الخارجي ولم يبقى له سوى حوشًا معزول، وراحت صورة أمّه تخبو في ذاكرته، بينما هو يعايش حياة أناس آخرين أصبح جزءاً منهم وشاهداً على قصصهم وحيواتهم.
جيلان الذي دفن ثأره من أخيه وزوجة أبيه داخل نفسه، سيتعلم حب أناس آخرين (الأم رحمة، ورانية، ، وسُلاف، وحوذان ..) وقد قارب العشرين من عمره، الكاتب تجاوز أكبر وأصعب مآزق للسرد، واستطاع الحفاظ على قارئه إلى النهاية، وهذا ما وجدته في الرواية وهو أمر، بكل صدق، صعب الحدوث في الرواية العربية. بدأت الرواية بتكنيك درامي عبارة عن عائلة يمنية وزوجها السعودي في قرية على الحدود (المجدعة) وبقعة مباركة على جبل الدّود، ثم الانتقال إلى مدينة أبو عيش السعودية والتي ينتهي فيها التكوين الأول، ثم يبدأ التكوين الثاني في (حوش عباس) و(حوش منشبة) ، والثالث في (حوش الحريضة)، حتى يعود إلى أهله من بوابة قريته اليمنية الأولى ( المجدعة)، وصديقه اليمني «صولان».
بأسلوب روايات المغامرات المشوّق يروي لنا «جابر مدخلي» حكايةً يمتزج فيها حياة الناس بين حدود بلدين أحدهما غني وجاذب والآخر فقير ومحتاج، ومحاط بالحرب والسياسة وبحيوات أناسٍ فيها من الغنى ما يكفي لمحو مسافات جغرافيّة ضيقة بأبعادها، ولكنها شاسعة بأحداثها وحكاياها.
مقتطفات من الروايه:
- «فبالنسبة لي كنت أعيش طفولتي كجبليَّ صلب لا أعرف من المدينة وحضاراتها إلا أبي، وملابسه النظيفة الأنيقة، ورائحة عطره،وبياض بشرته التي صنعها له الثراء.»
- «أتذكر أن الخط اليمني وما خلفه، كان عُششاً متهالكة، وأقفاصاً من الزنك غير صالحة للاستيطان الآدمي.
وكلما لمحت المشهد كنت أتذكر المأساة التي أجبرت أمي على صعود جبل الدّود، ورجائها لله بأن ينقلها إلى الخط المجاور.»
- «عندما يسدد لك الغيب ديونه دفعة واحدة، أو على دفعات، فاعلم أنك في طريقك الصحيح.. استمر سواءً أكانت
أقدارك مبهجة، أم مؤلمة، المهم هو ألا ترفضها؛ لأنك متى رفضتها زاد عليك البلاء كنوع من التمحيص، أو لإرغامك على الرضوخ لتذكيرك بأنك منفّذّ لامقرّرٌ.»
- «الذين يكرسون أعمارهم من أجل تغيير مفاهيم الناس، وإيصال تيارات الوعي إلى أذهانهم لا يهرمون أبدًا، ولا يتألمون مهما طعنتهم الحياة في خواصرهم؛ لأنهم بكل يوم يبنون فيه ذهنًا واعياً يعيشون أطول من أعمارهم، ويسعدون رغم أن الوجود بكامله يسلب منهم طعمًا كاملًا للسعادة.»
وقد صدرت الرواية في طبعتها الأولى مطلع العام الحالي 2022م.
** **
- أحمد السماري