الثقافية - الجزائر - وردة أيوب عزيزي:
نستضيف في هذا الحوار أ.د.محمد دياب غزاوي، رئيس قسم اللغة العربية ووكيل كلية الآداب سابقا وعضو اتحاد كتاب مصر، للحديث عن قضايا تخص الأدب والنقد، فإلى نص الحوار:
س: هل ترى أنّ القصيدة العربية مشروع مثقف؟ وإلى ماذا يحتاج الشاعر بمشروعه هذا؟
في البداية ينبغي أن نفرق بين المثقف والشاعر؛ إذ ليس كل مثقف هو شاعر بالضرورة, ذلك لأن الشعر موهبة من الله وفطرة قبل كل شيء, ومن ثم نجد كثيرا من المثقفين وليسوا شعراء, وليس هذا مما يعيبهم على الإطلاق, حتى إننا نجد, وهذا أمر مشاهد بيننا, كثيرا من المتخصصين في مجال الأدب والنقد بل وأساتذة جامعات وأسماء مرموقة لكن أحدهم لا يستقيم له شطر بيت, بيد أن الأمر مختلف؛ إذ لابد لكل شاعر أن يكون مثقفا, بل على درجة عالية من الثقافة, وأنا بطبيعة الحال أتحدث هنا عن الشاعر الحق, ذلكم الشاعر الذي يروم أن يكون له مشروع شعري, أن يكون له صدى في عالم الشعر, وبصمة خاصة به.
الشاعر الحقيقي إذن لا بد أن يكون مثقفا, ويحتاج من ثمة إلى آليات كثيرة لتحقيق ذلك, ومنها القراءة الواسعة الواعية, حتى يغدو شعره فسيفساء لثقافات متنوعة, ومعارف متباينة, ناهيك عن اضطلاع بالواقع والحياة والمجتمع, إضافة إلى حافظة قوية تهضم الشعر العربي عبر عصوره المختلفة وأزمنته المتباينة, مع ثقافة دينية وفكرية ونقدية وعلمية, وقديما قال بوفاليري «ما الليث إلا بضع خراف مهضومة»
س: غياب مصداقية النقد الحقيقي على الشعر يؤثر في روح المبدع الحقيقي - فيما يرى البعض: «في غياب النقد العلني غياب للشفافية»؟
نعم بالتأكيد, فإن غياب النقد الحقيقي يؤثر سلبا في الشعراء بل على الإبداع بصفة عامة, وإذا كان النقد هو عملية تقويمية, كما أنه الحكم على النصوص بتبيان مواطن القوة ومواطن الضعف, وهذا بطبيعة الحال في صالح الإبداع, مع التفرقة الدقيقة بين ما يمكن أن يعد نقدا, وما هو نقض وهدم, وللأسف الشديد تداخلت عوامل مجتمعية وثقافية كثيرة أدت إلى غياب النقد الحقيقي على الساحة الأدبية الجادة, أو بمعنى أدق غياب النقد عن النصوص الأدبية والشعر المتميز, في ظل احتفائهم بما هو هزيل أو حداثي كما يقولون أو ما يسمى في أغلبه «بقصيدة النثر» بما لا علاقة له بالشعر الحقيقي من قريب أو بعيد, أو ذلك الشعر الذي يتسم بالتهويم أو الغموض والإيهام, ومن ثم ترك الإبداع الحقيقي أو ذلك الشعر الذي ينتسب أصحابه إلى أجدادهم بدءا من امرئ القيس وعمرو بن كلثوم والحطيئة مرورا بجرير والفرزدق إلى مسلم بن الوليد وأبي نواس إلى أبي تمام والبحتري والمتنبي وأبي العلاء والبوصيري والبهاء زهير حتى البارودي وحافظ وشوقي وناجي والعقاد...
ولعل غياب النقد عن هذا الشعر الحقيقي أثر كثيرا في نفسية كثير من هؤلاء المبدعين, ومن ثم إصابة الكثير منهم بالإحباط, بل وانصراف بعضهم عن عالم الشعر؛ لإحساسهم بالتجاهل من قبل النقاد بل والمؤسسات الرسمية التي لا تأبه بهم.
س: مقولة: إميل سيوران... النقد تفسير خاطئ.. ينبغي أن تتمّ قراءته من أجل فهم الذّات لا من أجل فهم الآخر؟
بطبيعة الحال فإن النقد إنما يعبر عن ذاتية صاحبه في الأساس قبل أن يعبر عن صاحب النص, وقد يكون تفسيرا صحيحا وقد يكون غير ذلك, لا سيما إذا كان فيه ليا لعنق النص وإبعاده عن معانيه ودلالاته ومراميه, لكننا أيضا نؤكد ان النص بعد أن يسكبه الشاعر على الورق يغدو ملكا للجمهور, في حوزة التلقي, بل قد يضفي عليه النقد هالة من القداسة أو ينزع عنه ورقة التوت, ومن ثم قد يصل الناقد إلى بعض المعاني- نتيجة قراءاته وثقافاته- إلى بعض اللآلئ المنبثة فيه والتي ربما لم تكن تدور بخلد المبدع نفسه, وإن كانت قراءة النقد مهمة بطبيعة الحال للشاعر المبدع حتى يكون على دراية بم يفكر النقد, وما هي الآليات التي ينطلق منها, وربما بل من المؤكد فإن النقد سيساعده إبان إبداعه الآتي.
س: إشكالية الحداثة وهل كونها حركة إبداع تتماشى مع العصر؟
موضوع الحداثة وإشكاليتها موضوع كبير, سالت فيه أقلام وأقلام, ومن الصعب أن نلخصه في حوار بسيط, لكننا في الوقت ذاته نؤكد أنه لا يمكن لعاقل أن يقف ضد الحداثة وإلا فإنه يحكم على نفسه وعلى المجتمع وعلى الإبداع بالموت, ولكن عن أية حداثة نتكلم, لقد بدأت الحداثة الشعرية منذ أبي نواس حينما ثار على المقدمة الطللية, والأمر كذلك مع مسلم بن الوليد في البديع وأبي تمام, ولعل المعركة التي أتقدم شررها بين أبي تمام والبحتري كانت صراعا حول الحداثة أو بين القديم والجديد, فالشعر العربي عبر تاريخه الطويل لم يقف حجر عثرة ضد الحداثة, لكنها الحداثة التي لا تنبت عن القديم, ولا تقوم بقطيعة معرفية مع التراث, من ثم فإن الشعر له قواعد معينة وله أسس, من سار عليها فهو الشاعر, ومن خرج عليه لا يعد كذلك, ولا يمكن أن يقارعنا الحجة أنه حداثي, وأننا ما زلنا تعيش في جلباب قديم متهرئ, ولذلك فنحن مثلا ضد ما يسمى» بقصيدة النثر» بحجة الحداثة, لما فيها من مفهوم مغلوط عن الإبداع وعن الشعر إضافة إلى تغييب الفواصل بين الأجناس الأدبية, إن الحداثة الحقيقية هي التي تبني ولا تهدم, تنقد ولا تنقض, ترتقي ولا تهوي!
س: من الظواهر المثيرة للجدل ظاهرة الشاعر الناقد كيف يمارس المبدع دوره في النقد؟
نعم هناك ظاهرة الآن وهي الشاعر الناقد, وكيف يمارس المبدع دوره في النقد، بالتأكيد ظهر الآن على الساحة الشاعر الناقد, ووجدنا كثيرا من الشعراء يتجهون إلى ممارسة تطبيقية, واتضح هذا على المستويات كافة بدءا من الشعراء العاديين مرورا ببعض الأكاديميين الجامعيين الذي يجمعون في تخصصاتهم بين النقد والإبداع, وأعتقد أن هذه الظاهرة ليست جديدة فقد وجدت منذ أبي تمام, الذي استحال إلى ناقد حينما ألف كتابه الأشهر أو مختاراته «الحماسة», فقد كان يعيد ويزيد بل ويتدخل في بعض النصوص الشعرية التي اختارها, مما يؤكد سيطرة الناقد على الشاعر, وهذه الظاهرة لها إيجابيات ولها سلبيات ربما لا نجد المجال يسمح بسردهما!
س: من هم القادرون على حمل مشروع مثقف, وإعلاء كعب الشعر, وإضاءة المشهد الثقافي في مصر؟!
بطبيعة الحال فإن الدولة ومؤسساتها الثقافية يجب أن تعي دورها جيدا في بناء شخصية الإنسان, ليس فقط بناؤه من الناحية الجسمانية وهذا مهم, وإنما أيضا ينبغي أن تضطلع بدورها الثقافي, وبنائه معرفيا ويكون ذلك عبر مؤسساتها متمثلة في وزارة الثقافة, وأعتقد أن الدولة تحاول في هذا الإطار, لكن المأمول أكثر من ذلك بكثير, وما تطرحه من برامج ثقافية وتوعوية أقل بكثير مما يرومه المثقفون بعامة والشعراء بخاصة.
لكن الحقيقة أن المشهد الإعلامي مغيب عن الساحة الأدبية, ولا يواكب الحركة الأدبية, ولا نتاج الشعراء, وذلك من خلال اهتمامه بفعاليات أخرى تقل في أهميتها عن الثقافة الحقيقية المتمثلة في الشعر والنثر, ومتابعة آخر المستجدات على الساحة الثقافية, وذلك في ظل طغيان الاهتمام المبالغ فيه بالسينما والمسرح والدراما.
س: يكون النقد حقيقيا نزيها حين يتسامى عن الخصوصيات والمحسوبيات... هل أعطى الناقد حق الشاعر في إيصال إبداعه وإبراز موهبته؟!
هذا سؤال في غاية الأهمية, أشكرك جزيلا على طرحه؛ وربما ونحن ندرس للطلاب مادة النقد في الجامعة نؤكد لهم أن ثمة فارقا بين مصطلحي النقد (بالدال), والنقض (بالضاد), فالنقد الحقيقي هو الذي يبني, ويشجع على الإبداع, ويعمل على تطوير الأداء التقني للمبدع, ومن ثم يضع نصب عينيه ما أبداه له النقاد من ملاحظات في قابل أعماله, بيد أن النقض هو عملية هدم, خصوصا إذا لم يكن الناقد أو من يقوم بعملية تقويم الأعمال نزيها, ومن ثم يدخل هنا المحسوبيات وعدم الموضوعية ومن ثم يضيع النقد الحقيقي في بحر لجي من المجاملات أو تصفية الحسابات!
س: يقول الناقد عبد الله الغذامي: إن النقد الأدبي أوقع نفسه في حالة من العمى الثقافي التام.
بداية ربما لا أفهم ماذا يقصد الغذامي بهذي المقولة, فربما تكون نابعة من هجومه العام على النقد الأدبي, ترويجا لمنهج النقد الثقافي الذي يتبناه ويؤسس له, ربما!
لكنني بالتأكيد لا أوافق عليها بصفة عامة؛ بالعكس لا أحد ينكر دور النقد الأدبي في عملية حراك واعية في الساحة الادبية, ومتابعة تطور المبدعين عبر مراحل حياتهم.
س: هل نحن في زمن الكتابة أو زمن اللغة أو زمن الصورة العابرة أو زمن المختصرات؟
بالتأكيد ونحن نعيش في عصر وسائل التواصل الاجتماعي, وعصر السرعة في كل شيء, بل عصر الومضة, أصبحنا للأسف نعيش في زمن الصورة التي غدت تعبر عن الواقع المعيش, ولم يعد المتلقي قادرا او لديه من الوقت والجهد أن يستمتع بقصيدة طويلة, بل امست الصورة هي المعبرة, والتي يمكن أن تختصر كثيرا, ولذلك وجدنا بعض الشعراء كثيرا ما يذيل نصه بصورة يمكن أن تبلور فكرته التي يروم التعبير عنها.
س: اختلفت آراء النقاد والدارسين، عن مشروعية مصطلح «الكتابة النسائية» بين مؤيد ومعارض.
فما مصداقية وجوهر النقد الأدبي عند الحركة النسائية أو في الأدب النسائي، وهل أنصف كتاباتها وإبداعاتها؟ وما مفهوم الكتابة النسائية لدى الدكتور الناقد محمد دياب غزاوي؟
بداية يجب أن نفرق بين مصطلحين, وهما مصطلح «الكتابة النسائية» ومصطلح «الكتابة النسوية», وأعتقد أن الفرق كبير بينهما, فالكتابة النسائية هو مصطلح يندرج تحته كل ما تنتجه النساء من إبداع شعرا كان أو نثرا, أما الكتابة النسوية فيدخل في إطار «الفيمينست» وهو مصطلح حديث واتجاه معاصر, وهو ما تكتبه المرأة دفاعا عن قضايا المرأة ووجودها ضد الهيمنة الذكورية التي تحس بها في المجتمع بوصفه مجتمعا ذكوريا يهمش المرأة ولا يولي قضاياها أو حقوقها أي شيء, ومن ثم فهي تسعى جاهدة أن تعبر عن مكنون المرأة؛ لأنها ترى أنها أولى من المبدع/ الرجل في التعبير عن كل ما ترومه.
أما عن النقطة التي أشرت إليها وهي أن كثيرا من النقاد قد أساء إلى الإبداع الصادر عن المرأة, وأنها لا يمكن أن ترقى إبداع الرجل, فالأمر بالتأكيد ليس على إطلاقه, لا يؤخذ على عواهنه بهذي الطريقة, وإن كنا يجب أن ننظر إليه بكل حيادية, لا شك أن نتاج المرأة قياسا بالرجل هو نادر جدا, وهذا أمر مشاهد ليس فقط في العصر الحديث أو المعاصر وإنما منذ القديم, وللمتلقي أن ينظر إلى نسبة الشواعر مثلا في العصر الجاهلي, سيجد أنها نسبة لا تكاد تذكر, والأمر كذلك في العصور التالية, من العصر الإسلامي أو العباسي, وربما نجد طفرة في نسبتهن في العصر الأندلسي, وإن بقيت نسبة ضئيلة أيضا, ولكنني أعتقد أن نسبة إبداع المرأة في العصر الحديث قد زادت بصورة ملحوظة, وربما ساعدتهن في ذلك الكتابة النثرية واقتحام مجال الرواية, حيث برزت الكثير من الأسماء النسائية, بل ومنهن من حصل على أعلى الجوائز.