المتنبي: أحمد بن حسين بن الحسن بن عبدالصمد الجعفي الكوفي الكندي (303- 354هـ /915- 965 م). شاعر العربية الأكبر، ولد بالكوفة. في محلة تسمي كندة وإليها نسبه، ثم غادرها بصحبة أبيه إلى بادية السماوة، وذلك سنة 313هـ، وله من العمر عشر سنين، فأقام فيها نحو سنتين ضيفاً على بني الصابي أجداد المتنبي لأمه، حيث أتيح له في هذه الفترة تلقي العربية من منابعها الأكثر أصالة. ثم عاد إلى الكوفة سنة 315هـ بدوياً قحاً، فأقام فيها نحو سنة. ثم ارتحل إلى بغداد سنة 316هـ فأقام فيها نحو سنتين. ثم غادر بغداد سنة 318هـ متوجهاً إلى الجزيرة وشمالي الشام، فتنقل في بواديها وحواضرها. ومدح عدداً من أعيانها وأُمرائها إلى أن انتهى إلى سيف الدولة ابن حمدان صاحب حلب وعاش في كنفه تسع سنين.
ثم ارتحل من حلب إلى الفسطاط بمصر سنة 346هـ فأقام فيها أربع سنين في كنف كافور الإخشيدي وطلب منه أن يوليه فلم يوله كافور فغضب أبو الطيب وانصرف يهجوه.
غادر الفسطاط عائدا إلى الكوفة سنة350هـ فوصل إليها في ربيع الأول سنة 351هـ واستغرقت رحلة العودة نحو ثلاثة أشهر، ولم تدم إقامته فيها أكثر من سنة.
ثم ارتحل إلى بغداد سنة 352هـ، ثم عاد إلى الكوفة في أول شعبان من السنة نفسها.
ثم غادر الكوفة لآخر مرة متوجهاً إلى أرجان من بلاد فارس في شهر محرم سنة 254هـ بدعوة من ابن العميد وزير ركن الدولة، فوافاها في شهر صفر من السنة نفسها، ولبث نحو شهرين في ضيافة الوزير.
غادر أرجان متوجهاً إلى شيراز في شهر ربيع الثاني سنة 354هـ تلبية لدعوةٍ من عضد الدولة ابن بويه البويهي، فبلغها في شهر جمادي الأولى سنة 354هـ
- رحلة النهاية
غادر شيراز في شهر شعبان من السنة نفسها عائداً إلى العراق يريد بغداد فالكوفة، وفي الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة 354هـ عرض له- كما يشاع- فاتك بن أبي جهل الاسدي في الطريق بجماعة من أصحابه ومع المتنبي فريق أيضا فاقتتل الفريقان فقُتل المتنبي وابنه محسد وغلامه مفلح بالنعمانية بالقرب من دير العاقول في الجانب الغربي من بغداد.
والقصص والشواهد والحكايا التي تبرز الجوانب المضيئة في حياة المتنبي، وجوانب العبقرية التي عرفت عنه تملأ كتب التراث، مثل:
- يقال إن أحد الذين يكرهون المتنبي الشاعر الكبير أصابه ضيق لكثرة ما يسمع من استشهاد الناس بشعره، فآل على نفسه ألا يسكن مدينة يُذكر بها أبو الطيب وينشد كلامه، فهاجر من مدينة السلام (بغداد)، وكان كلما وصل بلدا يسمع بها ذكره يرحل عنها، حتى وصل إلى أقصي بلاد الترك، فسأل أهلها عن أبي الطيب فلم يعرفوه، فتوطنها، فلما كان يوم الجمعة ذهب إلى صلاته بالجامع، فسمع الخطيب ينشد بيت المتنبي بعد ما ذكر أسماء الله الحسني:
أسامياً لم تزده معرفةً
وإنما لذةً ذكرناها
فعاد إلي دار السلام.
- كان الوزير الأديب ابن العميد قبل أن يتصل به المتنبي ينقم عليه شهرته، ويشكو ضعف الحيلة في إخمال ذكره، والغض من قدرة، قال بعض صحبه: دخلت عليه يوماً فوجدته واجماً، وكانت قد ماتت أخته عن قريب، فظننته واجداً لأجلها، فقلت: لا يُحزن الله الوزير، فما الخبر؟ قال: إنه ليغيظني أمر هذا المتنبي واجتهادي في أن أخمل ذكره، وقد ورد علي نيف وستون كتاباً في التعزية ما منها إلا وقد صدِّر بقوله:
طوي الجزيرة حتى جاءني نبأ
فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا
شَرِقْتُ بالدمع حتى كاد يشرقُ بي
فكيف السبيل إلى إخمال ذكره؟ قلت: القدر لا يُغالب، والرجل ذو حظ من إشاعة الذكر، وإشهار الاسم، فالأولى ألا تشغل فكرك بهذا الأمر.
- قال الدكتور زكي مبارك: أدهش أبو الطيب المتنبي المتقدمين والمتأخرين حين قال:
فما حاولت في أرض مقاما
ولا أزمعت عن أرض زوالا
على قلق كأن الريح تحتي
أوجهها جنوباً أو شمالا
لكأنه اكتشف الطيران، قبل عباس بن فرناس.
- قال ابن حجر العسقلاني: حضر المتنبي مجلس الوزير ابن حنزاية - جعفر بن الفرات- وفي المجلس أبو علي الآمدي الأديب المشهور، فأنشد المتنبي أبيات جاء فيها كلمة: التهنئات، فقال أبو على ناقداً المتنبي: التهنئة مصدر والمصدر لا يجمع. فقال المتنبي لآخر بجانبه: أمسلم هو؟ فقال: سبحان الله! هذا استاذ الجماعة. فقال المتنبي: إذا صلى المسلم وتَشهد أليس يقول: التحيات؟ فخجل أبوعلي وقام من المجلس صامتاً.
- يحكى أن أبا الطيب المتنبي كان يضع قصيدته وهو يتغنى فإذا توقف بعض التوقف رجع بالإنشاد من أول القصيدة إلى حيث انتهى. وكان ينشد وهو جالس مقلداً الطرماح والفرزدق وقد قالوا: إنه اشترط على سيف الدولة أن ينشده وهو قاعد، وحينما أنشد سيف الدولة قصيدته المشهورة:
لكل امريء من دهره ما تعودا
وعادة سيف الدولة الطعن في العدى.
قال له بعض الحاضرين، لو أنشدتها قائما لأسمعتها الناس. قال المتنبي: أما سمعت أولها؟ يقصد قوله: لكل امريء من دهره ما تعودا، فتخلص أحسن تخلص.
- حكي أبو الفتح ابن جني قال: لما أنشد أبو الطيب المتنبي سيف الدولة قصيدته التي يقول فيها:
يأيها المحسن المشكور من جهتي
والشكرُ من قبَل الإحسان لا قِبَلي
أقِلْ، أنِلْ، أقطع، أحْمِل، عَلْ، سَل، أعِدْ
زِدْ، هَش، بَش، تفضلْ، أدْنِ، سَر، صِل.
وناوله نسختها وخرج، نظر سيف الدولة فيها فوقع:
تحت كلمة «أقل» أقلناك. وتحت «أنل» يحمل إليه من الدراهم كذا. وتحت «أقطع» قد أقطعناك الضيعة الفلانية.
وتحت «أحمل» يقاد إليه الفرس الفلاني. وتحت «عل» قد فعلنا. وتحت «سل» قد فعلنا فاسأل. وتحت «أعد» قد أعدناك إلى حسن رأينا فيك. وتحت «زد» يزاد كذا. وتحت «تفضل» قد فعلنا. وتحت «أدن» قد أدنيناك. وتحت «سر» سررناك. وتحت «صل» قد فعلنا.
- قدم على المتنبي بنو كلاب، مستشفعين به ليوصل طاعتهم وإخلاصهم لسيف الدولة، فنظم مقطوعته التي تُطرب وتحنن قلب السامع، حتى يكاد يضمن قبول طلبه، قبل إتمام القصيدة:
ترفق أيها المولى عليهمْ
فإن الرفق بالجاني عتابُ
وإنهم عبيدك حيث كانوا
إذا تدعو لحادثة أجابوا
وعين المخطئين همُ وليسوا
بأول معشر خطئوا فتابوا!
فقبل سيف الدولة شفاعته فيهم وقبل اعتذارهم وأمنهم.
- عندما قال المتنبي أبياته الشهيرة التي عرض فيها ببنات الحضر- أي بنات بغداد- في معرض إشادته بالنساء البدويات:
ما أوجه الحضر المستحسنات به
كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
أين المعيز من الآرام ناظرة
وغير ناظرة في الحسن والطيب
أضمرت البغداديات في نفوسهن له شراً وعندما علمن أنه وصل في بعض سفرياته إلى أكناف بغداد هجمن عليه وخلعن نعالهن صائحات به: انظر إلى هذه الوجوه، هل هي المعيز، أم وجهك أنت هو وجه المعيز؟، وهممن بضربه بنعالهن حتى تمكن من الهرب منهن بشق الأنفس.
حكاية الحكايا:
إلى عهد قريب كان المحبون والأزواج إذا سافروا أو نأوا أو تغربوا ختموا رسائلهم بقول الشاعر:
بم التعلل لا أهل ولا وطن
ولا نديم ولا كاس ولا سكنْ
فكان الجواب يأتيهم في رساله:
سهرت بعد رحيلي وحشة لكم
ثم استمر مريري وارعوى الوسن.
والبيتان من قصيدة للمتنبي، قالها وهو في مصر، يتذكر فيها سيف الدولة الحمداني، الذي قضي في صحبته تسع سنوات 337 - 346هـ هي زهرة عمره، فارقه بعدها مُغضباً إلى مصر. وكان سيف الدولة يتقصي أخبار المتنبي في مصر، ويرجو عودته إليه، لدرجة أنه لما انتهي إليه بيت المتنبي - من القصيدة ذاتها-:
وإن بليت بود مثل ودكم
فإنني لفراق مثله قمن
(قمن: خليق وجدير) والمعني أني قادر على فراق جديد. قال: «سار وحق أبي». أي: ذهب مثلاً بين الناس. والقصيدة من أجمل قصائد المتنبي لم ينشدها كافور مع أنه أنشأها بمصر ومنها هذه الأبيات الجميلة في خطاب صديقه القديم سيف الدولة:
يا من نعيب على بعد بمجلسه
كل بما زعم الناعون مرتهن
كم قد قُتلت وكم مت عندكم
ثم انتفضت فزال القبر والكفن
ما كل ما يتمني المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
لقد قسا أبو الطيب في التعريض بسيف الدولة في هذه القصيدة، وهذه الأبيات هي التي قطعت بينهما الأسباب الى الأبد، إذ لم يجرؤ المتنبي على العودة إلى حلب -مقر سيف الدولة- أبداً على الرغم من الحاح سيف الدولة في طلبه منه العودة إلى حلب بعد هروبه من مصر- في شوال عام350هـ خرج المتنبي من مصر هارباً متخفياً، بعد أن خاب أمله في كافور الإخشيدي، هاجياً إياه بقصائد مرَّة ماسخاً ذلك الداهية الجبار، على صورة كاريكاتورية هزلية لن يعرفه العالم في ما بعد إلاَّ بها.
وفي عام 354هـ وأثناء عودة المتنبي من شيراز حيث كان يمدح عضد الدولة بن بويه اغتيل في الطريق هو وابنه محسد ومن معه، ونهبت قافلته المحملة بالهدايا والمال والكتب، فلم يبق لها أثر، ولفقت الحكايات الهزيلة في نهايته الأسطورية، ولم يحقق أي من أهل ذاك الزمان في ملابسات الحادث، إلاَّ تلك الرواية المشكوك فيها للخالديين - الخالديّان أخوان كانت لهما حياة أدبية واحدة، وهما: أبو بكر محمّد بن هاشم بن وعلة بن عثمان بن بلال بن خالد بن عبد منبّه من بني عبد القيس، ثم أخوه أبو عثمان سعيد، اتّصل الخالديان ببلاط سيف الدولة قبل أن يدخله المتنبي (337 ه - 948 م) وبقيا فيه بعد أن غادره المتنبّي (346 ه-957 م)- وكانا يمقتانه. في كتابهما لأبي نصر بن محمد الجبلي وجوابه عليهما – حيث ادعيا أنهما كتبا إلى أبي نصر محمد الجبلي -أبو نصر هذا من وجوه الناس في الناحية التي قتل فيها المتنبي- وزعموا أن أبو نصر هذا صديق للشاعر وقاتله وكلاهما نزل في داره قبل القتل بأيام قليلة، وخلاصة جواب الجبلي عليهما: أن فاتكًا الأسدي خال ضبة العيني الذي هجاه أبو الطيب كان يكثر السؤال عن الشاعر ليقتله انتقامًا لأخته التي هجاها، وقد صرح بهذا لأبي نصر، وأن أبا الطيب نزل على أبي نصر بجبل فأخبره ونصحه بالحذر فلم يقبل واحتقر فاتكًا وقومه احتقارًا شديدًا، وغلا في كلامه غلوًّا لا يليق برجل عاقل-.
وإلى اليوم ما زالت أوراق قضية مقتل المتنبي مفتوحة وذلك لتعدد الاشتباه بقتله، فهل هو سيف الدولة الجريح من هجائه؟، أم كافور الدساس؟، أم عضد الدولة النافذ، أم قطاع الطريق الذين طمسوا بفجاجتهم نبأ القافلة وصاحبها –المتنبي- وغيبوا الحقيقة؟.
وختاماً:
أحمد بن الحسين المتنبي قامة إنسانية وإبداعية سامقة، تميز منجزه الشعري بخواصّه ومزاياه الفنية. وتلك سمة من سمات المبدع الحق الذي يشغل الناس في كل العصور والأمصار.
** **
صلاح عبدالستار محمد الشهاوي - عضو اتحاد كتاب مصر