سهام القحطاني
لا شك أن الترجمة تعد مصدرا من مصادر التجديد الثقافي عند الشعوب، لكن يظل الخط الفاصل بين كونها حافزا للتجديد من كونها فخا للتقليد، خط لا يدركه إلا القليل من أرباب العلم والثقافة.
انبنت الحضارة الإسلامية على أكتاف الترجمة، فقد أدرك خلفاء الدولة الإسلامية أهمية الاستفادة من علوم ومعارف وثقافات الأمم المغلوبة، وهو اهتمام وأهمية قد نجد في سعة التأويل مبرراتها.
* كانت العرب قبل الإسلام أمة «لا تقرأ ولا تكتب» وهو الأمر الذي حرمها من إنتاج تراث فكري وفلسفي وثقافي كباقي الشعوب المعاصرة لها في تلك الحقبة، لكن بعد الإسلام اختلف الأمر؛ لأن العلم أصبح جزءا من هوية المسلم وخاصة بعد نزول آيات قرآنية تحفز على العلم كونه الطريق إلى الهداية كمرحلة أولى ثم أهميته كوسيلة للتفقه في الدين ونشره.
* إرساء مفهوم الشخصية الحضارية الذي نشأ مع الإسلام والذي حوّل «الشخصية العربية» من بعدها الرقمي «وجود بلا إنجاز» إلى بعدها الكيفي «الوجود مع الإنجاز»، فدور تلك الشخصية أصبح يُقاس بما تقدمه من إنجاز عبر عنه النص القرآني «بإعمار الأرض» والقيم الملتفة بهذا الإعمار من علم ومعرفة وتطوير وترقي.
* تجديد الرؤية عن الآخر؛ إذا قارنا موقف العربي قبل الإسلام نحو الآخر برؤيته بعد الإسلام سنجد اختلافا جذريا في تلك الرؤية.
كانت الهوية العنصرية التي اتصف بها العربي قبل الإسلام حاجزا منعته من الاستفادة بخبرات وتجارب الآخر المعرفية والفكرية رغم اختلاط العربي بحضارات الشعوب الأخرى من خلال رحلتي «الصيف والشتاء» الاقتصادية، فلم يرغب العربي في استيراد أي قيم ثقافية أو معرفية أو اجتماعية تغير البنية الرئيسة لهويته، لكن بعد الإسلام الأمر اختلف؛ لأن الآخر كما ورد في النص القرآني «هو مفهوم ثقافي» وليس مفهوما أيديولوجيا «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا»-الحجرات- وبالتالي فالمعنى الجديد الذي أسسه الإسلام «للآخر» هو معنى ذو قيمة معرفية إثرائية.
أضف إلى ذلك إلى دلالة الهوية الجديدة التي رسخها الإسلام للشخصية المسلمة والتي تجاوزت الخصوصية العرقية إلى «هوية إنسانية» فكل من اعتنق الإسلام يحظى بتلك الهوية سواء من العرب أو من غير العرب هذا المساواة المبنية على الدين لا العرق هذّبت رأي وموقف العرب من الآخر «المسلم من غير العرب» وبالتالي الاندماج مع تراثه الثقافي والتأثر بذلك التراث.
* التسامح الديني الذي رسخه الإسلام وحرية المعتقد والاندماج مع الديانات الأخرى واحترامها واحترام تراثها.
ولذا كانت الشخصية العربية مهيأة في الربع الأول من الخلافة الأموية لخوض اكتشاف التراث الفكري والثقافي للشعوب المغلوبة من خلال «الترجمة».
ولا شك أن خلفاء بني أمية ومن جاء بعدهم أدركوا أن قوة الدولة واستمرار نفوذها السياسي لن يكتمل ويستمر إلا بالعلم والمعرفة وبما أن العرب ليس لديهم تراث فكري وثقافي يناسب الدولة العظيمة فكروا في الاستفادة من التراث الفكري للشعوب المغلوبة في تأسيس حضارة فكرية للدولة الجديدة التي أصبحت تتربع على أراضي دول الحضارات القديمة، فستأجر الخلفاء المترجمين وأرفعوا من شأنهم، وحظيت الترجمة والمترجمين بعصر ذهبي.
وبذلك أصبحت المترجمات البنية الأساسية للفكر الإسلامي فيما بعد والحضارة العلمية للدولة الإسلامية.
ورغم الفائدة التي قدمتها «المترجمات» للحضارة العلمية الإسلامية إلا أنها كانت سببا رئيسا وخاصة في مجال الفكر والفلسفة لشيوع أفكار تخالف العقيدة الإسلامية، فهوس بعض مفكري وفلاسفة المسلمين بأفكار سابقيهم من الإغريق والفرس في مجال الفكر والفلاسفة وانعدام الخط الفاصل بين التقليد والإضافة والتجديد حتى عندما تقرأ فكرهم ستجده مرآة لفكر أرسطو وأفلاطون بصياغة مختلفة أشبه بـ»خمور قديمة في قوارير جديدة» ولعل التقليد كان من أهم أسباب «انعدام رؤية أصيلة للفلسفة الإسلامية أو نشوء نظريات فكرية تامة الاستقلال».
كما أن غلبة أفكار المترجمات على خصوصية العربي الفكرية كانت دافعا لحدوث تصادم عرقي كما حدث في حركة الشعوبية.
وفي العصر الحديث لم ينج الفكر والثقافة العربية من «استعمار الترجمة» منذ الشيخ محمد عبده حتى اليوم، فظل المترجِم العربي أسير ما ترجمه فلم يُحرك ساكنا كمضاف إليه فوقع في ظل أفكار من ترجم لهم لنجد أنفسنا عودة إلى «زمن الشروحات وشروح الشروحات» كما استعمرت أفكار هيجل وسارتر ونيتشه وجيل دولوز وميشال فوكووهابرماس وأيمانول كانت وغيرهم ممن قضى بعض مثقفي العرب معظم حياتهم الثقافية ينتقلون من واحد لآخر شرحا وتعقيبا ومقارنة حتى ضاع صوتهم وفكرهم بين ضجيج تلك الأصوات وأفكارهم.
ولعل انغماس المثقف العربي في الترجمة وهوسه بالمترجمات ثم إعادتها من خلال الشروحات وشروح الشرحات افقدته القدرة على تأسيس نظرية فكرية خاصة به.
كما أن انعدام الخط الفاصل بين التقليد والإضافة أوقعت المثقف العربي سواء المترجم أو المقلّد لمكونات الترجمة حينا في صدام مع المجتمع مثلما حدث مع العلمانية والحداثة والليبرالية والنسوية.
لا أحد ينكر فضل الترجمة كجسر معرفي بين الشعوب وتبادل الخبرات الفكرية، لكن يظل السؤال ما الذي استفادته المعرفة العربية من كل الكتب المترجمة بأقلام المثقفين والأكاديميين العرب التي تمتلئ بها رفوف المكتبات؟
وأنا لا أقصد بسؤال الاستفادة التحصيل المعرفي بل صناعة النظرية المعرفية العربية التي تُحرر العقل العربي من استعمار حاصل الترجمة وتحفزه على تأسيس نظريته المعرفية الخاصة وتنقله من مستهلِك للمعرفة إلى منتِج لها.