أجلسُ على أطراف ألمك، تتناول إفطارك مغمض العينين غارقاً في همّك الجديد، أيّ ألمٍ يرتديك هذا الصباح، أيّ كآبة ضربت أطنابها في قلبك وأنت تشعر أنك عجزتَ عن النهوض بوجعك، هل تسافر معي؟ سألتك، أردتك أن تفيق قليلاً، وحين حضر سمعك وفتحت عينيك متسائلاً ألقمتك جملة قد تصنع يومك، قلت لك نسافر إلى حيث كنّا قبل ثلاثين عاماً، أمام الشاطئ في تلك المدينة التي قضينا فيها أيّامنا الأولى، أحبطني تخاذلك وتبرّمك، أنفاسك تعلو وتهبط وأنا أنتظر بلوغك غايتي وبلوغي غايتك، ففيها يمكن أن تنجو من نفسك.. من ألمك!
نذهب إلى مقعدنا الخشبي أمام البحر، وسيكون الوقت صيفاً وسيمتلئ الشاطئ بالسائحين، سنمرّ من بينهم ونتخذ مكاناً قصيّاً، نتناجى فيه ونتعارف، ألسنا في أول أسبوع من زواجنا، أليست ملامحك ملامح طفل لم تمسّك بعد موجعات الحياة وعذابات اللحظات، ها هي ملامحك بدأت تلينُ قليلاً، فتحت جفنيك بصعوبة، وبدأت نظراتك تشمل المكان، ستُمسك بيدي كما فعلت ذاك الصباح الفتيّ، وستحدّثني عن محاولاتك الشعرية التي بدأت بوادرها وأنت في السنة الأولى في الجامعة، سأندهش من جمال تعبيراتك، سأطلب منك أن تعيد قراءتها ثانية وثالثة، وحين أسردها عليك ونحن على طاولة الغداء ستندفع نشوتك وسيهتزّ بدنك طرباً، إذ صدحتُ بشعرك بصوت غارق في الأنوثة مما جعلك تعود ـ إعجاباًـ ثانية إلى جذاذة الورقة التي كتبتها فيها وتقرأها بتلذّذ ظاهر، الآن اعتدلتَ في جلستك، بل اتسعتْ حدقتا عينيك وظهرتْ ملامحك أقلّ بؤساً، في اليوم الثاني ذهبنا إلى مدينة الملاهي الصغيرة، سرنا على الرصيف البحري داخل الشاطئ، هناك بضعة ألعاب، لعبنا وعبثنا، وأعدنا اللعب مرّات كثيرة، ثم خرجنا متلاصقين وكأننا جسد واحد، لانتْ قسوتك، برقتْ أساريرك، رأيتُ أن أسافر بك إلى تفاصيل أيامنا تلك، في تلك المدينة الساحلية الرائعة قضينا عشرة أيّام هي وقود حياتنا وأيامنا التي تلتها، سهرنا تلك الليلة في صالة الفندق، حينها كان أحدهم يعزف الكمان بلحن شجيّ لا زال يعبث بشوقي وذاكرتي الآن، ألا تتذكّر ذلك اللحن؟ حتماً تتذكّره فقد كنتَ تهبط من غرفتنا حين تعلم أن عازف الكمان بدأ يعزف مقطوعته الأخّاذة، مددتُ نظري نحو ملامحك وكأنّي بك تجترّ تلك الموسيقى الشجيّة، نعم أنت تفعل الآن فقد بدأتْ ملامحك تعود إلى ذاك الوقت السخيّ، ها أنت الآن تعود القهقرى، ترتدي ملامحك القديمة النقيّة، تزول تغضّنات نفسك تدريجيّاً، نغدو من جديد في أيّامنا القديمة، أمدّ إليك يدي، تقبض عليها كما كنت تفعل آن ذاك، نخرج من البيت بملامحنا الشبابية الفتيّة، ننثر لآلئ صباحنا على وجوهٍ تعجّبتْ لمرآنا بعد أن نزعنا عن عمرنا كل ألبسة الزمن الكالحة المتراكمة.
** **
- عبدالكريم بن محمد النملة