وكلّ فنون شعر الحداثة وما بعد الحداثة لا علاقة لهُ بقصيدة الهايكو، لا من قريب ولا من بعيد.. قصيدة الهايكو قصيدة الطبيعة وهي مستقلة بنفسها، وبلغتها، وكونها الشعري وحدها سُلالة، ولا أب ولا سُلالة لها، فقط رحمُ الطبيعة، وهي روحها، وخلاصة فلسفة «الزمن ZEN» وفقهها (محبة كلّ شيء، الذي يعني بأصغر عشبة في الحقول).. كل شيء في الطبيعة من أحقر مخلوق وهو الذبابة إلى أجمل مخلوق وهو العندليب والفراشة.
قصيدة الهايكو قصيدة حبّ إلهي في الطبيعة الفاتنة، وفلسفة هذا الحب المقدس تقوم على محبة كلّ شيء في الطبيعة، مفرداتها بعطر الوردة، وصوت العندليب، وسرّ جمال الزنبقة، وتنهّد النسمات، ووشوشة الأغصان لبعضها، ولحن الجداول في سيرها الخجول.. لا فكر، لا آيديولوجيا، ولا شطحات ذات، ولا أحلام خلبية، الطبيعة تحكي فقط، تكتب نفسها، سيرتها الذاتية، والشاعر مُصغٍ بكلّ ما يفيض بهِ من أحاسيس.. بل ويسكبُ الدموع أمام الطبيعة.
إنَّ اعتبار «الومضة» و «الأبيجراما» و «الشذرة» و «قصيدة النثر» وغيرهم من التسميات ضمن تقنية وكيمياء قصيدة الهايكو خطأ فادح وكبير، وقع فيه عديد الشعراء، ظانين إنَّ كلّ قصيدة قصيرة مقتضبة هي « هايكو»، وذلك يعود لجهلهم بكيمياء وفقه هذه القصيدة، بسبب عدم عودتهم إلى مرجعيات قصيدة الهايكو الياباني، متمثلة في الاطلاع على كلاسيكيات الهايكو الياباني، وحياة الرهبان الثلاثة «باشو» و «بوسون» و»إيسا» مؤسسي فن الهايكو وغيرهم من الشعراء اليابانيين. وهذا ما جعلَ عديد الشعراء العرب الذين ركبوا موجة الهايكو، من دون العودة إلى مرجعياته، يُخرجون القصيدة ظلماً من بيتها الآمن، وسكنها الدافيء الطبيعة، ويقترفون الذنب في «أدلجة» القصيدة، وهي قصيدة الطبيعة فقط، ولا علاقة لها بالآيديولوجيا، ولا بالنضال، ولا بالحبّ ولا بالغرام، وبهذا الجنوح أساءوا إلى فنّ الهايكو، وسعينا أن يكون إضافة مهمة لشعرنا الحداثي، بل من مرجعياته.
هذا هنري برونل منظر الهايكو الكبير يقول : «لا مجال فيها للتوقدات، والتصادمات الكبيرة للصور، ولا للصراخات والموت والدم «!.. هي ببساطة شديدة، الطبيعة تكتب نفسها - سيرة الطبيعة:
« صباحٌ ثملٌ
طيرٌ يُغرّدُ
كي يصحّيه»!
*قصيدة الهايكو العربي ليست تقليداً لقصيدة الهايكو الياباني، بلْ استمرار، وإضافة لها، كغيرها من قصائد الهايكو في العالم الأنجليزي والألماني والفرنسي والأمريكي ، قلتُ ذلك في كتابي - قيد النشر- « الهايكو الياباني والهايكو العربي مواطن الاتفاق والاختلاف». قد اختلفنا مع الهايكو الياباني في تقنية الثلاثة أسطر، وقمنا بتطوير القصيدة والخروج بها من الإيقاع الكلاسيكي إلى الإيقاع الحداثي، ما دام لكل بيئة هايكو خاص بها،وقد أدخلت - أنا شخصيا- «المجاز» و»الذات»، وهما غير محببين لدى شاعر الهايكو الياباني، لاهتمامه بفلسفة الطبيعة، وهو يذرف الدموع حباً وتقديساً لها، وضحت ذلك في كتابي السالف الذكر.. وجاءت قصيدة الهايكو العربي على شكل « ماسجات» في إيقاع تلغرافي برقي، من دون أن نخرج بالقصيدة من فضاء الطبيعة وظواهرها ومكوناتها، والتزمنا بوصايا شاعر الهايكو الياباني « قصيدة الهايكو أشبه بالدخول إلى واحة «!
*قصيدة الهايكو العربي في خطر إذا استمرَ الأدعياء، ومَن ركبوا موجة الهايكو في إساءتهم من دون دراسة واطلاع على تاريخ القصيدة وتقنيتها وموضوعها وفلسفتها.. للأسف مجلات تصدر باسم الهايكو، ودواوين أيضاً لا تساوي حبر الورق، وقصيدة الهايكو من كلّ ذلك براء.. ولكي أكون موضوعياً أستثني القليل من شعراء المغرب العربي الجادين في الرقي بمستقبل هذه القصيدة، وجاءت نماذجهم مشرفة لهذا الفن.. وماضين معاً للرقيّ بهذا الفنّ الشعرين، ومحافظين على قداستهِ، وهو آخذٌ بالانتشار في الفضاءات العربية والعالمية، ولكلّ قصيدة هايكو بيئتها، شريطة ألا تنأى مفرداتها وجملها عن الطبيعة وظواهرها ومكوناتها وفلسفتها وهي تؤرّخ لنفسها.
أنا كأحد شعراء الهايكو الفاعلين والمثابرين، والمخلصين لتقنية هذه القصيدة وطقوسها أصدرت أربعة دواوين في الهايكو نالت اهتمامها من النقد في العواصم العربية ومن كبار النقاد العرب (ما يقوله الربيع 2005 القاهرة) و( رسائل المطر في طبعتين 2013 القاهرة و2015 الشارقة) و(العصافير ليست من سُلالة الرياح 2017القاهرة) و(سوناتات الماء والزنابق 20018 الكويت) والخامس (حكاية الوردة2021 قيد النشر). وبفعل ما أنجزته في هذا الفنّ توّجني كبار النقاد العرب - مشكورين - بريادة قصيدة الهايكو العربية، عبر دراسات مهمة ورسائل جامعية في دواويني. وقد تُرجمت قصائدي في الهايكو إلى خمس لغات عالمية هي (الإسبانية، الفارسية، الروسية، الإنجليزية) و(الرومانية كانت من قبل مجلة - ماردينال MERIDIANUL الإيطالية بعدة لغات، الأوسع انتشارا في أوربا.
** **
- عِذاب الركابي