ولد أبوالعلاء أحمد بن عبدالله المعري سنة 363هـ ، ومنذ صغره تعلم علوم اللسان والدين والعلوم العقلية والفلسفة إضافة إلى أن أسرته أسرة علم وشعر وقضاء.
وقد اتفق المؤرّخون أن المعري بدأ يقرض الشعر في عمر إحدى عشرة سنة.
لكن المعري الذي أصابه الجدري مبكرًا وأضناه حتى ذهب بصره وهو صغير السن أثر عليه فلم يستطع تذكر الألوان والأشكال وعاش حياة الكفيف الذي تزداد حاجته للناس.
ورغم ظروفه هذه إلا أنه قرر الارتحال من مكانه (معرة النعمان) لحلب وأنطاكية وطرابلس الشام واللاذقية وبغداد، ولعل كثرة ارتحاله كوَّن لديه علمًا وفلسفة؛ فقد قابل الرهبان واليهود وعلماء المنطق واللغة، فتمكن هذا الكفيف من تكوين نفسه فلسفيًّا وأدبيًّا.
وهذا يظهر في النتاج الأدبي للمعري شعراً ونثراً؛ فقد نظم الكثير من الشعر وإن ضاع من نظمه أكثر مما بقي، وكذلك نثره فلا نجد من نثره إلا رسالة الغفران ورسالة الملائكة ورسالة الصاهل والشاجح وطائفة من صغار الرسائل على أن لأبي العلاء كتباً أدبية ذهبت جملة ولم يعرف التاريخ إلا أسماءها ككتاب تاج الحرة وكتاب الفصول والغايات.
وللمعري ثلاثة دواوين أولها سقط الزند وهو ما اشتمل على شعره أيام الشباب، والثاني الدرعيات وهو ديوان صغير يشتمل على أشعار وصفت فيها الدرع خاصة، والثالث اللزوميات وهو أكبر الدواوين الثلاثة وأجلها.
ومن خلال ما قرأت في فلسفة أبي العلاء فهو يروي في لزومياته أبياتا منحرفة تنطق بإنكار الشرائع.
كما أنكر هذا الفيلسوف الجن، يقول في لزومياته:
قد عشت عمراً طويل ما علمت به
حسا يحس لجني ولا ملك
وقال أيضا:
فَاِخشَ المَليكَ وَلا توجَد عَلى رَهَبٍ
إِن أَنتَ بِالجِنِّ في الظَلماءِ خشينا
فَإِنَّما تِلكَ أَخبارٌ مُلَفَّقَةٌ
لِخُدعَةِ الغافِلِ الحَشويِّ حوشيتا
ولعل فلسفته نتيجة ما طاف به من أحوال عصره، ومن الواضح أن هذه الأحوال لم تزد على أن زهدته في الحياة وحملته على التفكير.
وأهم مصادر فلسفته الحياة نفسها فقد درس حياة قومه وانتهى إلى نقد كثير من الأخلاق والعادات، ويمكن أن نضيف كذلك الفلسفة اليونانية القديمة التي درسها في أنطاكية واللاذقية ثم أتقنها في بغداد، وكذلك الفلسفة الهندية والفارسية التي وجدها أيضا في بغداد.
ومختصر فلسفته أنه جمع بين الفلسفة العلمية والعملية ثم بينها وبين العلم واللغة والتزم ما لا يلتزم عند المسلمين في سيرته ولفظه فحرم الحيوان والتزم النبات وأبى الزواج والنسل وأراد الاعتزال عن الناس وحرم الخمر وأنكر النبوات واعترف بالإله وعرض بالتكليف وعارض القرآن وهزئ بشيء من أحكامه .
ونجد ذلك في عدة نماذج منها استحسانه غير مرة تحريق الهنود موتاهم فيقول:
فاعجبْ لتحريق أهلِ الهندِ مَيْتَهُمُ،
وذاك أروحُ من طولِ التّباريحِ
إن حرّقوهُ فما يخشَونَ من ضَبُعٍ
تسري إليه، ولا خَفي وتطريح
والنّارُ أطيبُ من كافورِ ميّتِنا
غِبّاً، وأذهبُ للنّكراءِ والرّيح
وأما رفضه للزواج والنسل فيقول في ذلك:
عَلى الوُلدِ يَجني والِدٌ وَلَو أَنَّهُم
وُلاةٌ عَلى أَمصارِهِم خُطَباءُ
وَزادَكَ بُعداً مِن بَنيكَ وَزادَهُم
عَلَيكَ حُقوداً أَنَّهُم نُجَباءُ
يَرَونَ أَباً أَلقاهُمُ في مُؤَرَّبٍ
مِنَ العَقدِ ضَلَّت حَلَّهُ الأُرَباءُ
ولعل من الطريف ما أوصى به المعزي بأن يكتب على قبره ((هذا جناه أبي علي / وما جنيت على أحد))
أي إنه لم يتزوج حتى لا يجني على ولده وأنه كان يؤثر ألا يولد ، وسبب رفضه للزواج لأنه سبيل النسل وفيه شرور أخرى ذكر منها:
فإن أنت لم تملك وشيك فراقها
فعف ولا تنكح عواناً ولا بكراً ،
فالمعري يسيء الظن بالنساء ويعتقد أن العفة والإحصان فيهن نادرة ويقول:
علموهن النسج والغزل والردن
وخلوا كتابة وقراءة
فصلاة الفتاة بالحمد والإخلاص
تجزي عن يونس وبراءة
ويقول أيضا في زهده:
ولم أُعْرِضْ عن اللّذّاتِ، إلاّ
لأنّ خِيارَها عَنّي خَنَسنَ
ومن خلال ما سبق يتبين لنا أن الفيلسوف الكفيف بنى قاعدته في الأخلاق على قاعدة أبيقور الفيلسوف اليوناني الذي يرفض اللذة عملاً لأنه لم يستطع أن يحصلها خالية من الألم ورأى أن الألم القليل تعقبه راحة النفس وصحة الجسم خير من اللذة الكثيرة التي يعقبها الألم والشقاء.
ويدرك القارئ لشعر أبي العلاء غموض الأغراض في شعره فإنك تقرأ قصيدة وقد فهمت ألفاظها المفردة فلا تكاد تفهم معانيها.
وللعلوم الفلسفية كما أسلفنا تأثي قوي في شعره؛ فلقد كان أول من أحدث فنا في الشعر لم يعرفه الناس من قبل وهو الشعر الفلسفي الذي وضع فيه كتاب اللزوميات وقد عمد بشعره إلى إثبات النظريات الفلسفية في الطبيعة والرياضة والألوهية والأخلاق.
ويذكر المؤرخون أن أبا العلاء هرم أواخر عمره لكنه لم يفقد ملكة من ملكاته العقلية والخلقية وفي اليوم العاشر من شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وأربعمائة للهجرة اعتل فلبث ثلاثة أيام مريضاً ثم مات يوم الجمعة الثالث عشر من هذا الشهر.
ولا شك أن أبا العلاء المعري أحد عمالقة الشعر العربي، فظل طوال هذه السنين وليومنا هذا محل اهتمام النقاد والدارسين ولا يزال تحت الدراسة … دمتم بود.
** **
- ماجد بن عبدالهادي العرجي