د.محمد بن عبدالرحمن البشر
يعد عبيد بن شرية الجرهمي أول من كتب في علم الأنساب، كما أنه أفادنا بالكثير من المعلومات والوقائع التي حدثت في أزمنة مضت، لا سيما في اليمن الذي ينتسب إليه، والحقيقة أن هناك الكثير من الاختلاف في كل شيء حوله، فلقد اختلف في اسمه، وفي عمره، وحياته، ومكان معيشته، وهل اتصل بالخليفة معاوية بن أبي سفيان أم لا، ومتى، وكيف، وأين، ولا أحد يمكنه أن يتأكد من كل ذلك، ولعلنا نقف عند بعض مما قيل عن اسمه، حيث ذكر انه عبيد بن سرية، وكذلك عبيد ابن السارية، كما أن ابن حجر العسقلاني قال إن اسمه عمير، أما ابن الأثير فقد سماه عمير ابن سرية، ولكن يكاد يكون الأقرب للصحة أنه عبيد بن شرية الجرهمي، وقد قال عن نفسه انه قد بلغ من العمر مائة وعشرين عاماً، عندما قابل معاوية بن أبي سفيان في ذلك الزمن وقد أدرك زمن عبد الملك بن مروان، وهذا يعني أنه قد وصل إلى الخمسين بعد المائة، كما ذكر انه قد وصل عمره إلى ثلاثمائة عام، كما يقول انه قد بلغ مائتين وخمسين عاما وكل ذلك مبالغ فيه، ولا أعتقد أن عمره يختلف عن عمر أقرانه في ذلك الزمان التي تدور حول الستين، أما متوسطها فهو نحو الثلاثين، وأن طال به العمر فقد يصل إلى التسعين وهذا أيضا فيه شك.
لقد اختلف الناس في مكان إقامته، فهناك من يقول إن إقامته في صنعاء وهو الأقرب، وهناك من يقول انه قد عاش في الرقة بسوريا، وأيضا هناك من يقول انه قد مكث في الكوفة، واختلف الناس في طريقة اتصاله بمعاوية بن أبي سفيان، فذكر البعض أن عمر بن العاص قد اقترح على معاوية أن يستدعيه ليسامره، لاسيما في فصل الشتاء الذي يطول ليله فقد عرف عن معاوية بن أبي سفيان أنه مصاب بالأرق بعد أن كبر في العمر، وقيل إنه التقى به في الرقة، وهناك من يقول انه التقى به في الكوفة، والمؤكد أنه التقاه، والسبب واضح في ذلك فعبيد الجرهمي قصصي من الطراز الأول يحكي قصص غريبة، لا سيما حول ملوك وحكام اليمن في العصور الغابرة، ويسرد قصصا عن القوم السابقين من عهد نوح حتى عهد معاوية ابن أبي سفيان.
وبالإضافة إلى ما ذكره عن عمره الطويل الذي يصعب تصديقه فيه، نجد أنه أيضا يذكر أمراً آخر يجب علينا التوقف عنده، وهو الادعاء بأنه الوحيد الذي بقي من قبيلة جرهم الكبيرة المشهورة، وهذا لا يتفق مع المنطق، لكن في نفس الوقت نجد أنه ينقل لنا بعض الأخبار عن بعض من ينتسب إلى قبيلة جرهم ممن لقيهم، وهذا يتناقض مع ما ذكره أنه الوحيد المتبقي من هذه القبيلة الكبيرة.
المسند هو الخط المعروف السائد في اليمن ولذلك فلا يستبعد أنه قد اطلع على بعض النصوص التي كتبت في المسند، والاستفادة منها في قصصه التي أوردتها لنا، وقصها على معاوية بن أبي سفيان، ومن المعلوم أن اليهودية قد وصلت إلى اليمن منذ زمن بعيد، وهذا أيضا يسمح له بمعرفة ما حوته التوراة من قصص تتعلق بالأنبياء وأعمارهم، ومعلوم أن التوراة قد أضيف إليها إضافات عبر التاريخ، وأن فيها الكثير من القصص التي يصعب التصديق بها، وهذا متفق عليه من قبل المؤرخين سواء في الغرب أو في الشرق، وربما انه أيضا تعلم السريانية والعبرية التي كان اليهود يتحدثون بها فيما بينهم، ثم جاءت العربية الشمالية التي أصبح الناس يتحدثون بها، لاسيما بعد نزول القرآن الكريم بلسان عربي مبين.
هناك غيره ممن نقل لنا بعض الأحداث في أزمنة قبل الإسلام، ومنهم وهب بن منبه، وكعب الأحبار، وقد عاشا في صنعاء، وربما عاصرهما ونقل عنهما بعض المعلومات التي وردت في كتب التاريخ التي وصلت إلينا، ونقل بعض المعلومات والتفسير عن عبدالله ابن عباس، ولا أحد يعلم صحة الالتقاء به فهل كان في الكوفة، أو انه لم يلتق، به وإنما نقلا من خلال رواية الآخرين، كما أننا لسنا متأكدين من صحة ما نقله عن عبدالله بن عباس، لأنه يميل إلى القصص والأساطير أكثر منها إلى الحقائق، وقد تسربت مع كل الأسف بعضاً من تلك القصص إلى بعض التفاسير التي نقلها لنا المفسرون فيما بعد، لاسيما أن عبيد بن شرية يربط بعض مما يقول بآيات القرآن الكريم ليؤكد على صحة روايته.
علينا أن نتوقف عند كل ما يصلنا من المعلومات سواء في الماضي أو في الحاضر لأنها تحتاج إلى تدقيق وان نعود إلى المصادر الموثوقة، وأمهات الكتب لأن غير ذلك قد يقود المرء إلى الفهم غير الصحيح فيما يخص بعض الأمور التاريخية والدينية، وغيرها من المعلومات التي يحتاج المرء إلى التيقن منها.
في زماننا هذا أصبحت مناهل المعلومات ومصادرها متعددة، ومنها ما يظهر في لباس جميل يعتقد المرء معه أنها صحيحة، وقد يأخذها حقيقة لأمراء فيها، وهي تحمل في طياتها الكثير من الأهداف غير السليمة، أو تلك السليمة، ولهذا فإن الإنسان يجب أن يكون أكثر تحريا عن الحقيقة، وأيضا محاولة أخذ المعلومة من أكثر من مصدر حتى يستطيع المقارنة.