مها محمد الشريف
في القرن الجديد أبهرت الصين العالم بانتشارها التقني والصناعي واحتلت مساحة شاسعة من أرض العالم ولكن الأرضية المشتركة بعد التغيير الثقافي والتقني تحولت إلى ميادين بعضها أكثر كثافة من الأحداث المأساوية من جراء الحروب والصراعات، وضدها القسم الآخر من الأرض ينعم بالازدهار، وحياة أكثر شغفاً بالتقنيات والمهارات التكنولوجية، بل شكّلت موسوعة من المنافسات المتضادة بعضها ناتج طبيعي للتنوع الإنساني والبعض الآخر ناتج عن الثنائيات التي انعكست سلبا على حياة الناس، و باتت رابطا مشتركا بين الايجابية والسلبية، وبين الحق والباطل، بل بين السلام والحرب، والعهود والمصالح، والوعود والخيانة.
لقد ظهرت الصين كخصم مُستقل يعتمد الاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا كمصادر لعتبات الجدارة والاستحقاق، مما ضاعف التفاعل بين هذين النوعين من القوة، في عالم القُطب الأمريكي المُنفرد وتزايد الإحساس بالخطر الصيني، منذ رونالد ريجان (1980- 1984)، حيث اعتلت الصين الهرم وتذبذبت العلاقات بينها وبين الولايات المتحدة وشهدت محطات تكتظ بالصراع المفتوح، وهو ما أدى إلى إنشاء تحالفات جديدة واتفاقيات أمنية وفرض عقوبات تجارية متبادلة ومواقف سياسية تمتد لعقود من العداء الحقيقي، ووصل التوتر بين البلدين ذروته في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، وبعده إدارة جو بايدن، و وُضعت آسيا في ساحة الصراع بوصفها أولوية «جيوستراتيجية» قصوى.
غير أن آثار ذلك الأمر اصبح مستمرا حتى يومنا هذا وخاصة بعد إفراغ الوضع القائم من وزنه ضد التقدم كقوة قادرة على التغيير، وتفكيك ذلك المصير المحتوم للقوة الأحادية في العالم وتقديرها أو التحكم بها، فقد سجل العالم أكبر دلائل متضادة، وحوى السجل التاريخي مع مطلع هذا القرن هزائم متعددة في تاريخها، وبشكل متزامن سجل القتل والفساد أعلى نتائجه، وفي الجانب الآخر من الزمن احتدم الصراع بين القوى الكبرى ونخص بالذكر أمريكا والصين بين واشنطن وبكين بشأن تايوان وبحر جنوب الصين، حيث تحول لقاء الحوار إلى ساحة تهديد بين البلدين، وقد وصل الأمر بوزير الدفاع الصيني وي فينغي إلى التهديد بسحق أي محاولة لاستقلال تايوان وبشن حرب، وكان وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن اتهم بكين بالقيام بنشاط عسكري استفزازي ومزعزع للاستقرار.
لم يعد أحد يرى تلك السلسلة التي تماسكت حلقاتها، وربطت بين أجزاء هيكل النموذج الذي أراده العالم في عهد ازدهار امريكا، يظل الجانب الملموس والقسري فيما بين الديموقراطيات المتقدمة اقل بروزاً مما كان عليه في الماضي وهذا يحد من التحول العالمي للقوة، والجديد في الوقت الراهن هو أن حُلفاء أمريكا التقليديين في أوروبا، بُلدان حِلف شمال الأطلسي، وفى آسيا، اليابان وكوريا الجنوبية، وتايوان، وأستراليا، ونيوزيلندا، أصبحت تربطها بالصين علاقات اقتصادية وتجارية واسعة، مهما جادل المتشككون في الأمر، ولن يكون هناك مجال للتضحية بهذا التعاون، حتى في حالة حدوث صدام مُسلح بين أمريكا والصين ومهما بالغ الساسة في رسم الخطط، تبقى تلك الدرجة تتأثر بالانجذاب أو النفور، بمعنى أشياء كثيرة ستحافظ على الأوضاع القائمة كما هي Status Quo، أي حماية عسكرية غربية واستفادة تجارية اقتصادية من الصين.
علما أن الضد في هذه الأثناء تساوى فيها السلم والحرب والمصلحة والسعي للأهداف، على حساب اعتبارات كثيرة، فالاهتمام الأميركي بالصين، تحقق منه شكلين متناقضين ومتكاملين؛ يبدأ الأول بمواقف صارمة من السياسة الصينية، والشكل الثاني يقوم على محاولة تحسين التواصل والتعاون بين البلدين انطلاقا من مسؤولية الطرفين تجاه العالم، ربما أمكنني ذلك من تسليط الضوء هنا على اصلاح ناقص وهدف مؤقت.
يبدو أن العالم اليوم يلوح بالقوة العسكرية والقوة الاقتصادية لتحقيق أغراضه وطمس الرسالة الأعمق للسلم والأمن، بعدما نجحت الدولتين في مصادر القوة الناعمة وتفوقت في السمعة والجاذبية، لكن ظهور العالم الحديث بكل تعقيداته وتداعياته الضمنية أسفر عن ضرر كبير في الاستقرار، وانعكس ذلك سلبا على موفور الوضوح والشفافية، وصنع أنماطا غير متجانسة لا يمكن أن تضم أو تمزج بين الروح والعصر إلا تقنيا فقط، وبعيدة كل البعد عن التحول الإيجابي المطلوب، إن الجميع بحاجة إلى التآلف ومقاومة تصادم الأهداف والأضداد والخلافات، لكي يتحول النزاع والصراع إلى توازنات إيجابية تحقق رواجا عالميا يرغم على التعايش السلمي، بيد أنه لا يمكننا فهم هذا التعقيد من دون العودة إلى ما هو أكثر بعداً.