اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
الأدب يمثل تعبيراً عن الحياة وفهم الأديب وتجاربه تجاه هذه الحياة من خلال اللغة واستخدام فن الكلمة وقد عرفه ابن خلدون بأنه لا يختص بعلم دون آخر، بل هو الأخذ من كل علم بطرف مع الإجادة في فني المنظوم والمنثور من كلام العرب، وحد هذا الفن هو حفظ أشعار العرب وأخبارهم والتماس ما لا يسع جهله من مختلف العلوم بالتوسع فيها على حساب التعمق في التخصص، بما يضمن تحقيق العدل القصد في الاختيار والترتيب، وقد قال عبدالله بن مسلم بن قتيبة: من أراد أن يكون عالماً فليطلب فناً واحداً، ومن أراد أن يكون أديباً فليتسع في العلوم، وقال ابن سيرين: العلم أكثر من أن يحاط به فخذوا من كل شيء أحسنه، وقال ابن عباس: كفاك من علم الدين أن تعرف ما لا يسع جهله، وكفاك من علم الأدب أن تروي الشاهد والمثل.
وقد اهتم العرب بالأدب اهتماماً يليق بقيمته الفكرية وخصائصه الأدبية، وحثوا على العناية به وتعلمه وتعليمه للاستفادة منه على الصعيد الفكري وفي مجال الدراسة والممارسة والسلوك والعمل مع إبراز فضله والحاجة إليه والروابط التي تربطه بالعقل والعلم واللغة والمروءة وذكر مزاياه على المستوى الفردي والجماعي، وقد قال أحد الحكماء: إن جاهاً بالمال يصحبك ما صحبك المال، وجاهاً بالأدب غير زائل عنك، وقال عبدالملك بن مروان لبنيه: عليكم بطلب الأدب فإن احتجتم إليه كان لكم مالاً، وإن استغنيتم عنه كان لكم جمالاً، وقال ابن المقفع: إذا أكرمك الناس لمال أو لسلطان فلا يعجبك ذلك فإن الكرامة تزول بزوالهما، ولكن ليعجبك إذا أكرموك لدين أو أدب وقد قال الشاعر:
لكل شيء زينة في الورى
وزينة المرء تمام الأدب
قد يَشرف المرء بآدابه
فينا وإن كان وضيع النسب
والعقل يحتاج إلى الأدب كما يحتاج الجسم إلى الطعام لأن الرباط الذي يربط بينهما يزيد العقل يقظة وكياسة وفراسة، نظراً لأن التجارب لقاح العقول، والعلوم الأدبية حافلة بالتجارب وغنية بالمناقب التي تغذي العقل وتجدد نشاطه، وقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: من لا أدب له لا عقل له، وقد قيل: الأدب يزيد العاقل فضلاً ونباهة ويفيده رقة وظرفاً، وقيل: عقل بلا أدب كشجاع بلا سلاح وقيل: الفضل بالعقل والأدب لا بالأصل والحسب، وقال الأحنف بن قيس: الأدب نور العقل كما أن النار في الظلمة نور البصر، وكمال قال الشاعر:
ولم أر فضلاً تم إلا بشيمة
ولم أر عقلاً صح إلا على أدبي
وإذا كان من أعلى درجات الفضل أن يكون ما يخفيه المرء أفضل مما يظهره، فإن قمة الأدب أن يستحي الإنسان من نفسه، شأنه في ذلك شأن المروءة التي من يذهب بعيداً في التحلي بها لا يعمل شيئاً في السر يستحي أن يعمله في العلن، وهذا الحياء في أفضل صوره يجمع بين الأدب والمروءة لفعل كل ما يجمل ويزين وترك ما يدنس ويشين، وقد قال علي بن أبي طالب: غاية الأدب أن يستحي المرء من نفسه، وقال عبد الملك بن مروان: الأدب للفقير مال وللغني جمال وللحكيم كمال، وتكلم رجل أمام المأمون فأحسن فقال له: ابن من أنت؟ قال: ابن الأدب، قال المأمون: نعم النسب انتسب إليه، ولهذا قيل المرء من حيث يثبت لا من حيث ينبت ومن حيث يوجد لا من حيث يولد، وقد قال علي بن أبي طالب:
كن ابن من شئت واكتسب أدباً
يغنيك محموده عن النسبِ
إن الفتى من يقول هاءَنذا
ليس الفتى من يقول كان أبي
وقال آخر:
كن ابن من شئت وكن مؤدباً
فإنما المرء بفضل حسه
وليس من تُكرمه لغيره
مثل الذي تكرمه لنفسه
وفي جميع الأحوال فإن الأدب يغذي العقل ويساعد على المروءة ويجلب الأنس في الوحشة، والمتحلي به يُتَّخَذُ منه حلية في المجلس وصاحباً في الخلوة وجليساً في الوحدة، وهو أفضل ما ورَّث أبٌ لابنه، لما ينطوي عليه مفهوم الأدب الواسع من الحث على مكارم الأخلاق وتوطين النفس على الفضائل والشيم الكريمة، وقد قال عنه علي بن أبي طالب: الأدب كنزٌ عند الحاجة وعون على المروءة وصاحب في المجلس وأنيس في الوحدة به تُعمر القلوب الواهية، وتحيا به الألباب الميتة، وينال به الطالبون ما حاولوا، وقد قيل: الغريب من لا أدب له، وقال أحد الحكماء: من كثر أدبه كثر شرفه وإن كان وضيعاً وبعد صيته وإن كان خاملاً، وساد وإن كان غريباً وكثرت حوائج الناس إليه وإن كان فقيراً، وقيل: المرء بفضيلته لا بفصيلته وبكماله لا بجماله، وبآدابه لا بثيابه وقد قال الشاعر:
إذا شئت أن تُدعى كريماً مكرماً
أديباً ظريفاً عاقلاً ماجداً حراً
إذا ما أتت من صاحب لك زلة
فكن أنت محتالاً لزلته عذراً
والآداب المرعية في حياة الإنسان تتطلب منه أن يراعي من الأمور أحسنها، مدركاً أن الأدب اسم يقع على كل صفة محمودة تمنع من يتصف بها عن الوقوع فيما يُعيبه، متخذاً من أدب النفس سلماً يصعد عليه إلى أدب الدرس.
والأديب الحقيقي هو الذي ينطبق عليه تعريف الأدب فهماً وحفظاً، جامعاً بين أدب النفس وأدب الدرس بالشكل الذي يؤهله لحمل لقب الأديب على ضوء ما يمتلكه من أدب البيان وأدب الزمان وأدب الجنان وأدب الإيمان.
ومن الخطأ المأثور والصح المهجور أن هناك من يُلقب نفسه أو يُلقبه غيره بأنه أديب، وهو أبعد ما يكون عن هذا اللقب، حيث إنه لا يمكن أن يستقيم استحقاق لقب الأديب بمجرد اكتساب شيئٍ من أدب الدرس في غياب أدب النفس، وما يعنيه ذلك من ضرورة تحلي الأديب بالفضائل والابتعاد عن الرذائل حتى يستقيم اللقب وينطبق عليه مدلوله، وتكون التسمية مقبولة والأدب يفعل مفعوله.
وأدب النفس الصحيح هو الأدب النابع من فضائل خُلقية ومرجعية دينية تتشكل بموجبها عند المتأدب بيئة قابلة لاحتضان الأدب في مفهومه الواسع الذي إذا تمكن المرء المؤدب في ذاته من اكتسابه استحق لقب الأديب.
والواقع أن أدب الدين يمهد الطريق إلى اكتساب المفيد من أدب الدنيا، ويهدي من يتحلى به إلى التوفيق ويجلب له الخير ويدفع عنه الشر، متسامياً بالأدب إلى مستوى مكارم الأخلاق، ونائياً به عن كل ما يفسد الأذواق، وقد قال الصادق جعفر بن محمد: أدب الدين قبل أدب الدنيا فمن لا دين له لا أدب له، وقال الشاعر:
ليس الأديب أخا الرواية للنوادر والغريبْ
ولشعر شيخ المحدثين أبي نواس أو حبيبْ
بل ذو التفضل والمروءة والعفاف هو الأديبْ
والأدب الهادف لا يصدر إلا من أديب على خلقٍ ودين، يصور حياة مجتمعه تصويراً صادقاً على النحو الذي يوجه بوصلة المجتمع في الاتجاه الصحيح، ويترجم القيم والمثل لهذا المجتمع بطريقة مؤثرة، تدفع المجتمع إلى الحرص على تأدية الرسالة والمحافظة على الاتجاه، مستفيداً من جماليات الكلمة وفنون الأدب، وموفقاً بين استقلالية الذات والارتباط بالمجتمع الذي يتبادل معه في التأثير والتأثر فيما يصدر عنه من إنتاج أدبي يخدم مجتمعه ووطنه.