محمد سليمان العنقري
كل ما يجري على الساحة الدولية يهدف بنهاية المطاف لتعزيز المكاسب الاقتصادية التي تؤهل الدول المتنافسة لمراكز السيادة والقيادة في العالم اقتصادياً, والذي بدوره سيعزز من مكانتها السياسية ويوسع تحالفاتها, فخلال العقود الثلاثة الماضية التي تلت تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991م, أعيد صياغة النظام العالمي الحديد وتسارعت خطوات الدول الكبرى نحو رفع ناتجها المحلي, فالتفوق الاقتصادي هو الهدف بالتنافس بل بالصراعات بمختلف أنواعها, ولم تعد الأفكار السابقة كالشيوعية والقومية وغيرها ذات قيمة أو مكانة في مفهوم الشعوب قبل الحكومات.
فالعالم أصبح قرية صغيرة, وجميع الشعوب تريد العيش بحياة تتوفر لها فيها كل السبل للرفاهية وتحقيق أحلامها بالتعليم والعمل والدخل الذي يمكنها من توفير متطلبات الحياة بمفهوم عصرنا الحالي بما يعزز جودة الحياة لهم, وهذا ما أصبح معياراً لقياس نجاح الدول والحكومات, وهو ما يؤثر في الحراك الدولي الذي نشهده من تنافس وحروب تجارية وعسكرية.
فلا يمكن فصل احتياجات وطموحات سكان أي دولة عن تحركات حكومات دولهم, فالتأثير متبادل بين الطرفين, ومع أن بداية هذا العصر من النظام العالمي الجديد بدأت بفوضى كانت ومازالت تضرب كافة القارات, حيث انطلقت من أوروبا الشرقية مع انفصال الجمهوريات السوفيتية لدول مستقلة, وانهيار حلف وارسو الذي كان يجمع دول أوروبا الشرقية, وانتقلت لبعض الدول في الشرق الأوسط وقد تصل لدول في آسيا الوسطى, وكذلك في وسط وجنوب إفريقيا بالإضافة لإعادة صياغة وتشكيل التحالفات الدولية مثل أوكوس في منطقتي المحيط الهادي والهندي بين أميركا وأستراليا وبريطانيا التي انسحبت من الاتحاد الأوروبي, والذي بدوره يواجه أزمة غير مسبوقة من خلال الحرب الدائرة بجواره في أوكرانيا بعد الغزو الروسي لها, حيث يفكر الأوروبيون بالعمل على تأسيس قوات خاصة بهم, والتحول لقطب يبحث عن مصالحه بعيداً عن ضرورة تكاملها مع مصالح أميركا التي حددت الصين كمنافس وحيد لها على قيادة العالم اقتصادياً, وتتحرك لمنع بكين من الوصول لأهدافها بأن تكون أكبر اقتصاد عالمي, والذي يتطلب منها تعزيز قدراتها العسكرية وتوسيع نفوذها السياسي لحماية مصالحها بعد أن حققت مكاسب اقتصادية هائلة بشراكات دولية واسعة, مستفيدة من عوامل عديدة من حيث طرق الشراكات التي تسلكها وتجد قبولاً دولياً في مختلف القارات خصوصاً بعد إطلاقها لمبادرة الحزام والطريق التي تضم حوالي 70 دولة, بالإضافة لمجموعة بريكس مع الهند وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا إضافة لشراكات مع مجموعة دول آسيا, وكذلك دول أميركا اللاتينية أي أن من يضع هذه التفاصيل على جغرافيا الكرة الأرضية سيكتشف أن الصين هي من تحاصر أميركا بهذا التوسع الهائل بعلاقاتها وشراكاتها, فهي لا تتدخل بشؤون الدول الداخلية ولا تملي على أي دولة قيمها كما يحاول الغرب فعله من خلال صراع الحضارات, وتعزيز هيمنتهم الفكرية والثقافية وليس فقط الاقتصادية أو السياسية والعسكرية.
فلا يمكن أن تتلون كل دول العالم بلونهم ومعتقداتهم فكل دولة وشعب يعتزون بإرثهم وتاريخهم ولا يحق لأحد أن يزايد عليهم بسيادتهم.
لكن هذا المشهد الفوضوي الذي يعيشه العالم سياسياً في العقود الثلاثة الماضية, والذي تأثر بالأزمات المالية والاقتصادية في آخر 15 عاماً مع الأزمة الصحية الكبرى بتفشي فايروس كورونا ثم الحرب الروسية على أوكرانيا, ماهي إلا فصول من الفوضى, لكنها فتحت الباب على إعادة ترتيب مراكز القوى بالعالم, فالتمدد الصيني تجارياً واقتصادياً, وكذلك عودة روسيا للمشهد الدولي, وتفكير أوروبا بأن تعيد بناء دورها الدولي والتغير بتوجهات أولويات السياسة الأمريكية أصبح يطرح السؤال من سينتصر؟ وفي أي الدول أو التكتلات ستستقر النسب الأكبر من مراكز التأثير الدولي بمختلف المجالات؟ فاستقلال الدول الصاعدة اقتصادياً في التكنولوجيا والصناعة وامتلاك التقنيات أصبح مهدداً لتفوق الغرب بقيادة أميركا على العالم, ويبدو أن واشنطن أدركت بعض أخطائها بما تركته من فراغ بالشرق الأوسط بعد احتلالها للعراق, وانتشار للفوضى بدول عربية, وكذلك عدم تحركها لمنع التمدد الإيراني بالمنطقة رغم أن العلاقات مقطوعة بين الدولتين وتصنفها أميركا من دول محور الشر, إلا أن ما بات يقلقها أن الصين وروسيا قدمتا نفسيهما كحلفاء لدول الشرق الأوسط وبدأت العلاقات تنتقل لمحاور استراتيجية وليس تبادلاً تحارياً فقط.
والاعتقاد السائد لدى مراقبي السياسة الأمريكية حالياً أن واشنطن ترى أن بكين وموسكو إذا ما تعززت علاقتهما بالشرق الأوسط فإن جهودها لعزل موسكو بسبب غزو أوكرانيا وكذلك هدفها الأهم بالحد من تمدد علاقات الصين وتعميقها مع العالم ستفشل, بل قد يكون بداية انحسار للدور الأمريكي دولياً, ورغم امتلاك أميركا لكل مقومات القدرة على مواجهة الدولتين الأكبر بالعالم, إلا أن هذا الفائض من القوة لديها قد لا يكفي لتحقيق أيٍّ من أهدافها فالمشهد الدولي أكثر تعقيداً ولا يمكن أن تفرض مصالحها على حساب مصالح الآخرين.
يعيش العالم مرحلة مفصلية بكل التفاصيل, فليست مراكز الدول على سلم ترتيب الاقتصاد العالمي تتغير فقط, بل حتى القطاعات الاقتصادية فالتكنولوجيا اليوم هي من تحتل شركاتها صدارة القيمة السوقية عالمياً, بعد أن أزاحت الشركات الصناعية والبنوك والخدمات من المراكز الأولى التي احتلتها لسنوات طويلة, كما أن الصناعات تغيرت كثيراً, وكذلك الخدمات بل أصبح التحول للاقتصاد الرقمي هو المقياس بميزان التنافس دولياً, وحتى التعليم ونوعية الوظائف والأعمال وطرق إدارتها بإدخال أساليب جديدة مثل العمل عن بعد والتوجه للذكاء الاصطناعي بكافة المجالات كلها عوامل تمثل العناوين الكبرى للمرحلة الحالية والقادمة.