عبدالوهاب الفايز
في سلسلة مقالات حول التنمية الإدارية في المملكة في هذه الجريدة (يوليو، أغسطس 2020)، تناولنا المخاوف من نمو عشوائيات إدارية في القطاع العام، وكان الاقتراح بضرورة وجود جهاز مركزي (وزارة للتنمية الإدارية) تتولى تنمية وحوكمة الإدارة العامة، كما كانت تفعل اللجنة العليا للإصلاح الإداري. هذه الضرورة الوطنية نحتاجها لأجل تلبية المتطلبات الإيجابية الطموحة لإنجاح النقلة النوعية التي تعيشها بلادنا عبر (رؤية المملكة 2030)، والمتميزة في تاريخها المعاصر.
مهام مثل هذا الجهاز نحتاجها الآن مع بروز تحديات جديدة للإدارة الحكومية بدأنا نلمسها ونتخوف من آثارها على كفاءة وعدالة بيئة العمل. وأبرز هذه التحديات نجده في التعامل مع الموارد البشرية خصوصًا القيادات العليا والوسطى في الجهاز الإداري. فهذا الجانب يتطلب ضرورة الإشراف بشكل أكبر مما هو متاح الآن على بلورة ومتابعة تطبيق الهيكلة للتدرج الوظيفي بالأجهزة الحكومية لضمان العدالة والكفاءة والنزاهة، ويندرج في طياتها عدالة الترقيات والرواتب والمكافآت، حتى لا يكون هناك تفاوت كبير في المميزات لأجل المحافظة على محفزات الروح الإنتاجية الإيجابية في بيئة العمل.
فبيئة العمل المعاصرة أصبحت المؤثرات الإيجابية والسلبية عليها تتغير بسرعة نتيجة لعوامل عديدة، وهذا يجعلها أحد أبرز التحديات الرئيسية لـ(رؤية المملكة 2030)، فبرامج الرؤية الواسعة أحدثت هزة كبيرة للتنمية الإدارية في المملكة بشكل عام.. وأحدثت نقلة جديدة للإدارة الحكومية. فأحد التحديات المطروحة حديثًا في أدبيات الإدارة العامة هو ضرورة التوافق مع التوجه إلى تطبيقات النظرية الإدارية الجديدة managerialism (أو الإداروية، أي تحويل الأسلوب البيروقراطي إلى أسلوب إداري حيوي وديناميكي وتنافسي).
هذا التوجه، أو الأيديولوجيا الإدارية الجديدة، يفرض على القيادات، من وزراء ورؤساء هيئات ومؤسسات، أوضاعًا وتحدياتٍ كبيرةً تتطلب الكوادر المحترفة المؤهلة (القوي الأمين) التي تساعدهم وتعينهم على تنفيذ برامج الرؤية ومبادراتها ومشاريعها. ولأجل مساعدتهم لمواجهة تحدي الموارد البشرية لم يتأخر ولي الأمر في دعمهم ومساندتهم، وتم إقرار مبدأ جديد في الإدارة العامة في المملكة لاستقطاب الكفاءات الوطنية من خارج الأجهزة الحكومية، مع إقرار مرونة في الصلاحية لقائد الجهاز لاختيار من يراه لشغل الوظائف القيادية، مع صلاحية تحديد الرواتب والمكافآت والبدلات.
بعد سنوات من تطبيق هذه الآليات المرنة بدأنا نرى مشاكل حية جديدة مثل (الاختلاف الكبير في الرواتب والمميزات) بين العاملين في الجهاز الواحد. وهذه ترتب عليها سرعة تدوير الوظائف القيادية نتيجة توجه الأجهزة الحكومية إلى تقديم الإغراءات المالية للموارد البشرية مما أوجد (ظاهرة اختطاف الكفاءات). هذه الظواهر الجديدة علينا تجعلنا نتخوف من إرباك الجهاز الحكومي، وإرباك منجزاته وعدم استقرار أدائه. وأبرز الجوانب السلبية التي أصبحت مجال النقاش بين المراقبين والمختصين في الإدارة والمالية العامة هي:
أولاً: المخاوف من تضخم نفقات الباب الأول للميزانية العامة، فهذا الجانب سوف يظل مصدر قلق حتى تستقر إيرادات الحكومة على مصادر دخل واضحة ومستدامة، فأمامنا سنوات للاعتماد على الإيرادات النفطية، ونحتاج سنوات من العمل الدؤوب المضني لنرى الآثار التي سوف تترتب على برنامج التخصيص.
ثانيًا: تَنَقُّلُ القيادات وعدم استقرارها ربما يربك البرامج والمشاريع، ويؤخر تنفيذ الخطط والاستراتيجيات الحكومية، وهذا يؤثر على مؤشرات الأداء للقيادات. فهناك مشاريع تتطلب المسؤول الذي يتولى متابعة التصميم والتنفيذ والاستلام والتشغيل. هذا يتطلب استقراراً في الكوادر المشرفة عليها ليتسنى إنجازها بالشكل المطلوب، ولكن يصعب ذلك في ظل عدم ارتباط تلك الكوادر بكادر وظيفي ملزم يضمن الاستمرارية. وهذا وضع قائم الآن بالذات في الهيئات والأجهزة الجديدة التي لم تستكمل بناءها المؤسسي، وتحتاج الوقت للوصول إلى هذه المرحلة.
ثالثًا: العمل بنظامين للرواتب والعقود سوف يؤدي إلى بروز حالة الاغتراب النفسي، وتنامي روح الإحباط لدى الموارد البشرية وتدني دوافع العمل، والنزوع إلى المقاومة السلبية للتغيير. وهذا من أبرز مؤشرات بيئة العمل السامة.
رابعًا: التأثير السلبي على مفهوم الأجيال الجديدة للوظيفة وربطها بالاعتبارات المالية فقط، وتجاهل الاهتمام بضرورة بناء الخبرة والترقي الوظيفي الطبيعي، وتنمية العلاقات الإنسانية الإيجابية وتطوير الذكاء الاجتماعي. هذا التصور غير الواقعي للوظيفة يستحق الاهتمام في ظل ارتفاع نسبة الفئة العمرية الشابة في السكان، أي أننا سوف نشهد في قوة العمل القادمة نمو قناعات وتصورات غير واقعية ومشحونة بالنزعة إلى الصراع.
هذه الأمور السلبية - وربما هناك غيرها - تتطلب (الحوكمة والمعالجة الشاملة) من الأجهزة الرقابية والتشريعية حتى لا تؤثر على روح الإدارة وكفاءة الأداء الحكومي. التوسع بالتوظيف بعقود خارج إطار الكادر الوظيفي العام، وبدون ضوابط تحقق العدالة وتحقق استقطاب الكفاءات المؤهلة أمر لا يخدم المصلحة العامة، وقد يترتب على مشاعر الإحباط السلبية إنتاج حالات الإضرار بين العاملين بالجهاز الواحد وتوسع إدارة الصراع.
أيضًا نخشى أن يؤدي هذا الخلل إلى تأسيس نظرة ومفهوم سلبيين للجدارة والكفاءة والموهبة في مجتمعنا.كذلك وعلى المدى البعيد نخشى ولادة (ثقافة عمل) تنمي المشاعر السلبية والتنافس غير الإيجابي بين الموظفين داخل الإدارات الحكومية.. والخاسر الأكبر سوف يكون الأداء للأجهزة العامة والتنمية الإدارية بشكل عام.
هذا ملف رجال الدولة: فكروا بالأجيال القادمة.. سوف نجني ما نزرع!