د. عيد بن مسعود الجهني
شهدت الساعة الخامسة والنصف من صباح السادس عشر من شهر يوليو عام 1945 مرحلة جديدة (بالغة الخطورة) في تاريخ الإنسانية، هذا لأنها كتبت بلوغ الإنسان مرحلة من التقدم العلمي قد يقضي على حياته، بل ويدمر الكرة الأرضية التي نعيش عليها بالسلاح الذري الذي اخترعه بعقله وعلمه.
وقد زادت حدة الخطورة عندما شهد عام 1954 تجربة نووية أخرى أعظم من أختها الأولى إذ بلغت قوتها التدميرية (15) ميغا طن وتسابقت الدول وفي مقدمتها أمريكا وروسيا والصين في إجراء التجارب التدميرية ليتسع النادي النووي، ليبلغ اليوم أعضاؤه (9) دول وهناك أخرى على الطريق.
وغابت شمس القرن المنصرم الذي شهد حروباً يمكن وصفها بالتقليدية باستثناء قنابل هيروشيما، والحربين الكونيتين (1914 - 1918) (1939- 1945)، وكان ضحايا الأولى (10) ملايين من البشر والثانية ما بين (50 و 60 ) مليون إنسان، وقد اتسمت الحروب التي جاءت بعدها باستعمال المعدات العسكرية التقليدية، ومعظمها أبطالها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (السابق).
وكل ذلك التنافس بين الدب الروسي والغول الأمريكي كان خارج القارة الأوروبية، التي عاشت عقوداً عديدة في القرن المنصرم يسودها الأمن والاستقرار والرفاه الاقتصادي والاجتماعي ولم يعكر صفوها لفترة قصيرة الأحداث.
يوغسلافيا وقد تغلبت أوروبا باتحادها على قطع دابر رؤوس الفتنة في تلك الدولة التي تناثرت إلى دويلات تحت السلالة الأوروبية ليعود بعدها الهدوء إلى القارة لتعيش حياة الرفاه السياسي والاقتصادي، ولتنضم دولٌ انسلخت من الاتحاد السوفييتي (السابق) الذي انهار عام 1991 بعد السقوط المدوي لجدار برلين عام 1989 إلى القارة الأوروبية.
وهذه من عبر ودروس التاريخ دول وإمبراطوريات تتهاوى وأخرى تقوم على أنقاض تلك التي سقطت، وكل تلك أحداث وقعت على أرض القارة العجوز، وهي اليوم بعد تلك الأحداث التي يمكن القول إنها وطدت أعمدة القارة في جميع أركانها، هاهي اليوم تشهد ناراً مشتعلة على أحد أطرافها وتحديداً على أرض أوكرانيا بحرب تشنها روسيا على ذلك البلد أطلق عليها (حرباً خاصة).
لكن في المفهوم العسكري هي حرب شاملة استعملت فيها كل أنواع الأسلحة المتطورة، من قبل, فروسيا قدمت دبابتها الشهيرة T72 وغيرها من الدبابات وناقلات الجند تدعمها طائرات قاذفة قادرة على إطلاق صواريخ موجهة (جو - أرض) وإسقاط ذخائر مثل القنابل العنقودية، ناهيك عن طائرات هليوكوبتر، وبدون طيار.
في هذه المعركة الواسعة التي في مقدمتها أكثر من (200) ألف مقاتل روسي، تستعمل أوكرانيا في دفاعاتها أسلحة أمريكية بالدرجة الأولى منها (جافلين الصاروخي) المضاد للدبابات، (صاروخ ستينغر) المضاد للطائرات، وطائرات بدون طيار، لمحاولة صد الهجوم الروسي واسع النطاق.
بهذه الحرب الشرسة دخلت أوروبا ساحة الصراع العالمي في القرن الواحد والعشرين وودعت بقاءها لعقود عدة خارج النزاعات والصراعات والحروب في كل أركان القارات، في الشرق الأوسط، إفريقيا، أمريكا الجنوبية، آسيا، وأصبح على (قارة الثراء) والديمقراطية أن تشارك بالفعل محاولة حل النزاعات والصراعات والحروب بالطرق الدبلوماسية وليس بأسلحة التدمير التي قد تتطور لتهلك البشر وتدمر الحجر.
من تلك المناطق الملتهبة بالصراعات الحالة الهندية - الباكستانية فقضية كشمير تبرز من بين الدولتين وزادت حدتها بعد أن ألغت الهند الاستقلال الذاتي لإقليم جامو وكشمير، والهند تتمتع بدعم أمريكي وروسي وفرنسي، وباكستان على الجانب الآخر تقف إلى جانبها الصين، الهند وباكستان أعضاء في النادي النووي وأي حادث غير محسوب في المناطق المتنازع عليها قد يؤدي إلى كارثة.
وليس الوضع بين الهند والصين وهما دولتان نوويتان من الحجم الثقيل أفضل من الوضع الباكستاني - الهندي، بل قد يكون أسوأ بالمفهوم العسكري والاستراتيجي، فهما صاحبا (2.7) مليار نسمة والتوترات بينهما مستمرة قبل موقعة (وادي جالون) في منطقة (لاداخ) الشرقية، وجيش الدولتين الذي يبلغ حوالي (3.5) مليون مقاتل وإن كان العدد يقلل من أهمية أن الحروب اليوم تشن من بعد، إلا أن الصراع بين الدولتين احتماله قائم بين عملاقين في القوة العسكرية والاقتصادية، مما يجعل حدوث صدام مسلح بينهما قد تكون عواقبه كارثية على المجتمع الدولي.
وإذا كانت الصين لها نزاعها مع الهند فهي على الجانب الآخر عينها (بقوة) وتخطيط عسكري واستراتيجي على تايوان، ولا تخفي ذلك إذ تعتبرها جزءاً منها، الولايات المتحدة والغرب قدموا ويقدمون الدعم العسكري المطلق لتايوان، والرئيس الأمريكي خلال زيارته أواخر الشهر الماضي لليابان لم يخفِ ذلك بل قاله علناً في الإجابة على سؤال محدد يتعلق في التزام بلاده في الدفاع عن تايوان إذا تعرضت لهجوم صيني فكانت إجابته صريحة (بنعم) وبذلك يسدل السيد بايدن الستار عن خطورة الوضع الصيني التايواني الذي قد ينفجر في أية لحظة.
أما منطقة الشرق الأوسط وتحديداً الوطن العربي فقد ابتلي بدولتين خرجتا على كل قواعد القانون الدولي والأعراف الدولية وميثاق الأمم المتحدة، ورغم تبادل التهديدات بينهما إلا أنهما يتفقان على احتلال أراضي العرب والتدخل في شؤون الدول العربية.
إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948 وهي تحتل فلسطين والقدس وشنت حروب 1956 ، 1967، 1973، على مصر والأردن وسوريا، وطهران تحتل الجزر الإماراتية الثلاث ومكنتها الإدارة الأمريكية وبريطانيا من السيطرة على العراق وامتد نفوذها إلى بلاد الشام ولبنان وبلغ اليمن.
الدولة العبرية أصبحت منذ زمن بعيد دولة نووية، وإيران لازال ملفها النووي يراوح مكانه، واستطاعت أن تخصب اليورانيوم بنسبة (60) في المئة، فهي بالمراحل الأخيرة من محطات بلوغ مولدها (القنبلة النووية).
ورغم ما قيل وملأ الغمام بشأن الصراع بين دولة الفرس والدولة العبرية، وزعم نجاد أن بلاده عازمة على مسح إسرائيل من خريطة العالم وتحرير القدس، يقابله التأكيد الإسرائيلي المتكرر بمنع إيران من امتلاك ناصية (القوة النووية)، إلا أن كل تلك التصريحات من الجانبين لا تعدو كونها سوى جعجعة ولكن لا نرى طحيناً، والحقيقة (المرة) أن الدولتين متفقتان على هدف واحد ألا وهو تمزيق وحدة وأمن العرب القومي، ليصبح الوضع وكأنه على صفيح ساخن.
هذه أمثلة تعلمها دول المنظومة الدولية، وتعلم تلك الدول أن الحروب ليست نزهة، إنما دمار وخراب، ودروس الحرب الكونية الثانية مازالت ماثلة، فالدرس كان قاسياً، تحطمت مدن بأكملها وودعت دولٌ وإمبراطوريات خريطة العالم، وبرزت قوى عظمى جديدة، وأضعفت أخرى كانت في زمانها عظمى.
ومنذ عام 1945 كان التنافس بين الدول الكبرى الجديدة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (السابق)، قد انحصر في حرب باردة سجل التاريخ سقوطها عام 1991، أو إدارة حروب إقليمية أو قوى سياسية أو حتى منظمات معادية لدولة، لكن الدولتين العظميين تجنبتا أية مواجهة عسكرية مباشرة.
وإذا نظرنا إلى المناطق الملتهبة في عالم اليوم في معظم قارات العالم، وما تشهده تلك المناطق من نزاعات وصراعات وحروب، وأخذنا في الاعتبار من المغذي لها في الواقع المعاش لاتضح أن الدول الكبرى هي في الأصل اللاعب الرئيس في تحريك وإدارة تلك النزاعات وتطويرها لتصبح حروباً تديرها عن بعد أحياناً بل وتحتل الدول أحياناً أخرى (بالقوة) المعراة.
على الجانب الآخر من الذي أنفق الأموال الفلكية سعياً لاختراع أسلحة الدمار الشامل وعلى رأسها السلاح (النووي) بل واستعماله؟ إنها الدول الكبرى!! ليصبح اليوم العالم مخزناً ضخماً لأسلحة الدمار الشامل، دولة مثل إسرائيل في قلب العالم العربي تحتضن ترسانتها أكثر من (250) قنبلة نووية، وكوريا الشمالية التي تتصارع مع جارتها الجنوبية دولة نووية، وصادراتها من الأسلحة أكثر من (250) مليون دولار معظمها تذهب إلى إيران والتي تسعى لصناعة قنبلتها النووية، مدعومة من دولتين كبريين الصين وروسيا النوويتين.
وإذا دققنا في جغرافية معظم مناطق الصراع في أوروبا والشرق الأوسط، وأضفنا الهند وباكستان والصين وكوريا الجنوبية لاتضح أن كل تلك المناطق تعيش على مخزون ضخم من القنابل الذرية، وانفجار حرب في إحداها سيجر معه حتماً دول المجتمع الدولي بدوله الكبرى والصغرى ليكتب التاريخ العسكري حرباً كونية شاملة لا تبقي ولا تذر.
ولا يمكن الحديث عن أطماع الدول الكبرى في السيطرة على مقدرات الدول الصغرى دون ذكر كل من الولايات المتحدة بمخزونها الرهيب من السلاح المدمر والتي تنتشر لها أكثر من (750) قاعدة عسكرية في كل أركان قارات العالم، زاعمة نشر ديمقراطيتها كذباً، فالهدف تحقيق أهدافها التوسعية والسيطرة على مصادر الطاقة والاستراتيجية.
ولا تقل روسيا بقيادة السيد بوتن في أهدافها ومراميها عن أختها ماما أمريكا فالقيصر الذي شهد انهيار إمبراطورية بلاده عام 1991، بدأ في السنوات الأخيرة يلملم بعض الأجزاء القريبة من حدوده ومنها القرم واليوم في (أم) القرم أوكرانيا، لكنه مع طيشان الحرب نسي أن هناك وجوداً لقواته في بلاد الشام، مما جعل طهران تسرح وتمرح هناك، وتمثل ترسانته النووية الأولى في العالم لكن لا يسندها اقتصاد كبير، كما هو الحال في كل من أمريكا والصين مثلاً.
الصين القوة العظمى الجديدة لن تترك تايوان سليمة معافاة، فالتاريخ سيكتب يوماً هجوماً لدولة نووية كبرى على جارتها الصغرى بعد أن يتطور النزاع والصراع إلى حرب قد تكون أمريكا (البعيدة جداً) طرفاً فيها.
المهم أن أمريكا وروسيا والصين والدول الأخرى التي صار لها القدح المعلى في صناعة أسلحة (الفناء) تبرز أمثلتها أن الإنسان قد يصنع بنفسه سلاح قتله بل وتدمير الأرض ومن عليها، فالقوة التدميرية لهذه الأسلحة قادرة على جعل الأرض دكاً دكاً ومن عليها مرات عدة، وما القنابل الأمريكية التي ألقيت على الجزر اليابانية سوى مثل بسيط.
إذاً العالم على برميل بارود قد ينفجر في أية لحظة، وقد يمثل حادث عرضي بين دولتين كبريين اندلاع حرب كونية ثالثة إذا ما احتدم الصراع بينهما لتبقى الدول الصغرى هي الضحية.
والله ولي التوفيق،،،