د. تنيضب الفايدي
تقع الجار على بعد بضعة كيلومترات شمال بلدة الرايس بالقرب من نهاية الهيئة الملكية بينبع جنوباً، ويعتبر ميناء الجار (المندثر) من أكبر الموانئ على بحر القلزم (البحر الأحمر)، حيث تفد إليه السفن من أرض الحبشة ومصر ومن الهند والصين.
ما قاله الجغرافيون عن الجار
ذكر ميناء الجار معظم الجغرافيين والرحالة، حيث ذكر ميناء الجار الجغرافي عرام السلمي وهو من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) في كتابه (أسماء جبال تهامة وجبال مكة والمدينة وما فيها من القرى...) (نقلاً من الموسوعة السعودية)، إذ يقول: «والجار على شاطئ البحر ترفأ إليه السفن من أرض الحبشة ومصر، ومن البحرين والصين وبها منبر، وهي قرية صغيرة كثير أهلها، وشرب أهلها من البحيرة، وبالجار قصور كثيرة، ونصف الجار في جزيرة من البحر ونصفها الآخر على الساحل».
ووصف ابن حوقل في كتابه (صورة الأرض): «والجار فرضه المدينة وهي على ثلث مراحل منها على شطّ البحر وهي أصغر من جدّه، وجدّه فرضه لأهل مكّة على مرحلتين منها على شطّ البحر وكانت عامرة كثيرة التجارات والأموال ولم يكن بالحجاز بعد مكّة أكثر مالاً وتجارةً منها وكانت تجاراتهم تقوم بالفرس فلمّا أقام بها ابن جعفر الحسنىّ تشتّت أربابها ورزحت أحوالها».
كما وصفها المقدسي في نهاية القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) في كتابه
(أحسن التقاسيم في معرفه الأقاليم) بقوله: «الجار على ساحل البحر، محصنة بثلاثة حيطان، والرابع بحري مفتوح، وبها دور شاهقة، وسوق عامرة، خزانة المدينة ومدنها، يحمل إليهم الماء من بدر، والطعام من مصر، وليس لجامعهم صحن».
وقال البكري الأندلسي في كتابه (معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع): «الجار بالراء المهملة: هي ساحل المدينة، وهي قرية كثيرة القصور، كثيرة الأهل، على شاطئ البحر فيما يوازى المدينة، ترفأ إليها السّفن من مصر وأرض الحبشة، ومن البحرين والصين؛ ونصفها في جزيرة من البحر، ونصفها في الساحل. وبحذائها قرية في جزيرة من البحر، تكون ميلاً في ميل، لا يعبر إليها إلا في السّفن، وهي مرفأ للحبشة خاصّة، يُقال لها قراف، وسكانها تجار، وكذلك سكّان الجار، ويؤتون بالماء على فرسخين من وادى يليل، الذي يصبّ في البحر هناك».
كما أشاد بها الرحالة ناصر خسرو في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) في كتابه (سفرنامة)، حيث قال: «إنها ميناء، وقرية صغيرة».
قال الحازمي الهمداني (ت584هـ) في كتابه (الأماكن أو ما اتفق لفظه وافترق مسماه من الأمكنة) عن الجار: «آخرها راءٌ: مدينة على ساحل البحر بينها وبين المدينة يومٌ وليل، ترفأ إليه السفن من أرض الحبشة ومن البحرين والصين، وبها منبرٌ وهي آهله شرب أهلها من البحيرة، هي عين يليل، وبالجار قصور كثيرة، ونصف الجار في جزيرة من البحر، ونصفها على الساحل، وبحذاء الجار قرية في جزيرة من البحر تكون ميلاً في ميل، لا يعبر إليها إلا في السفن، وهي مرسا الحبشة خاصة، يقال لها قراف وسكانها (تجار) كنحو أهل الجار يؤتون بالماء من على فرسخين. ذكر ذلك كله أبو الأشعث الكندي وينسب إليها جماعه من الرواة منهم عمرو بن سعد الجاري روى عن أبي هريرة وغيره، وأبو سعد الجاريّ وغيرهما.
وقال الحموي في (معجم البلدان): «الجار مدينة على ساحل بحر القلزم، بينها وبين المدينة يوم وليلة، وبينها وبين أيله نحو من عشر مراحل، وإلى ساحل الجحفة نحو ثلاث مراحل، وهي في الإقليم الثاني، طولها من جهة المغرب أربع وستون درجة وعشرون دقيقة، وعرضها أربع وعشرون درجة، وهي فرضة ترفأ إليها السفن من أرض الحبشة ومصر وعدن والصين وسائر بلاد الهند، ولها منبر، وهي آهله، وشرب أهلها من البحيرة، وهي عين يليل، وبالجار قصور كثيرة، ونصف الجار في جزيرة من البحر ونصفها على الساحل، وبحذاء الجار جزيرة في البحر تكون ميلاً في ميل، لا يعبر إليها إلا بالسفن، وهي مرسى الحبشة خاصة، يقال لها قراف، وسكانها تجار كنحو أهل الجار يؤتون بالماء من فرسخين».
وقال الحميري في كتابه (الروض المعطار في خبر الأقطار): «مدينة بالحجاز على ساحل البحر مما يلي المدينة وهي آهلة عامرة كانت قبل هذا مدينة قريبة من جدّه والمراكب إليها قاصدة ومقلعة وليس بها كبير تجارة، ومن الجار إلى جدّه نحو عشرة أيام في البرّ بطول الساحل، والبحر يبعد تارة ويقرب أخرى، وأكثر هذه المراحل في رمال ناشفة وطرق دارسة يستدل فيها بالبحر والجبال. وقالوا: البحر الأعظم من المدينة على ثلاثة أيام وساحلها موضع يقال له الجار، وفيه ترسي المراكب التي تحمل الطعام من مصر، ومدينة الجار مدينة مسوّرة وهي ساحل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وهي حسنة البناء جدا والبحر يضرب سورها، ولها أسواق ومسجد جامع ولها أحساء خارج المدينة يسقون منها ولهم مواقع تحفظ ماء المطر...».
يقول حمد الجاسر عن ميناء الجار في كتابه (في شمال غرب الجزيرة): «ويقع الجار في المكان المعروف الآن باسم الرايس غرب بلدة بدر بميل نحو الشمال، وكان الماء العذب ينتقل إليه من بدر».
تاريخ الجار والأحداث المرتبطة بها
كانت الجار مسكونة قبل ظهور الإسلام، حيث أثبتت المجسات الأثرية بهذا الموقع وجود عدد من المستويات السكنية المتتابعة، أقدمها يرجع إلى عصر ما قبل الإسلام، كما أثبتت المجسات وجود أكثر من دور واحد في بعض منازل الجار، ووجود أنظمة لتصريف المياه المستعملة،كما كشف على سطح الموقع مجموعة من العملات الرومانية التي يعود تاريخها إلى القرن الثاني أو الثالث الميلادي.
وكذلك فإن بعض المصادر العربية تعزّز من حقيقة استيطان منطقة الجار خلال عصور ما قبل الإسلام، فابن هشام الكلبي يذكر في كتاب (التيجان) أن عمرًا الجرهمي أحب ابنة عمه ميا بنت المهلهل بن عامر فلقيها يومًا في الجار وقال فيها شعرًا جاء فيه:
سألتك بالرحمن لا تجمعي هو
عليه, وهجرانًا, وحبك جاره
وقد غير أبو سفيان طريقه ومشى طريق «الجار» عندما بلغه خبر مسير النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه بالمدينة، بقصد اعتراض قافلته واحتوائها، فبادر إلى تحويل مسارها إلى طريق الساحل، وأيضاً أرسل عمرو بن ضمضم الغفاري إلى قريش يستنفرها لإنقاذ قافلتها وأموالها.
وكان أبو سفيان يقظاً حذراً يتلقط أخبار المسلمين، ويسأل عن تحركاتهم، بل يتحسس أخبارهم بنفسه، فقد تقدم إلى بدر بنفسه وسأل من كان هناك: «هل رأيتم من أحد؟ قالوا: لا إلا رجلين، قال: أروني مناخ ركابهما، فأروه، فأخذ البعر ففتّه، فإذا هو فيه النوى، فقال: «هذه والله علائف يثرب»، فقد استطاع أن يعرف تحركات عدوه حتى خبر السرية الاستطلاعية عن طريق غذاء دوابها، بفحصه البعر الذي خلفته الإبل، إذ عرف أن الرجلين من المدينة أي: من المسلمين، وبالتالي فقافلته في خطر، فأرسل عمرو بن ضمضم إلى قريش وغيّر طريق القافلة واتجه نحو ساحل البحر (الجار) وهو المقصود في قوله تعالى (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم).
ويعتبر في فترات زمنية ميناء للمدينة المنورة، حيث نزل بها المهاجرون إلى الحبشة عند قدومهم إلى المدينة المنورة وكان نزولهم عندما فتحت خيبر حيث قدموا إلى خيبر وكان منهم جعفر بن أبي طالب واحتضنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال (لست أدري بأيهما أفرح بقدوم جعفر أم بفتح خيبر) ، ففي رواية عن ابن سعد صاحب كتاب (الطبقات) إشارة تذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب إلى النجاشي أن يبعث إليه من بقي عنده من المهاجرين، فحملوا في سفينتين إلى ميناء الجار (ميناء بولا قديمًا)، وتذكر المصادر بأن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - زاره لتوزيع الإغاثة (الغوث) القادم من مصر عام الرمادة (17هـ)، كما بنى بها مخازن لاستقبال الغلال المرسلة من مصر، وعين عليها واليًا من قبله.
وقد ازدهرت الجار وأصبحت هناك أسواق ومنابر للجمعة ويشرب سكان الجار من آبار في جزيرة قريبة منه لا زالت موجودة، واتسعت ثم بدأت في الزوال لوجود ميناء جدة وينبع بديلاً عنها. وبقيت بعض الأطلال وأحيطت بشبك حماية ولكن بعد فقدان مآثرها.
اندثار ميناء الجار
منذ القرن الرابع الهجري ضعف شأن الجار بسبب اضطراب الأمن في الحجاز بسبب ضعف الحكم. حيث وصفها ناصر خسرو في القرن الخامس بأنها ميناء وقرية صغيرة. وفي القرن السادس ذكر الإدريسي في كتابه (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) أنها على ضفة البحر المالح، والمراكب إليها قاصدة ومقلعة وليس بها كبير تجارات، وفي أوئل القرن السابع الهجري حول الأيوبيون فرضة المدينة إلى ينبع مما أدى إلى تدهور الجار ومن ثم خرابها.
بعض الآثار في الجار
ساحل الجار جميل بدءاً من الجار حتى ساحل جبل رضوى ولاسيما أثناء الربيع وهي منازل (عزة) وقد ذكر ذلك كُثير في أشعاره وغزلياته. ولا يظهر من بقايا الجار حالياً سوى بعض قطع الفخار مختلف الألوان وكسر الزجاج وبعض بقايا البنيان أو على الأصح بقايا أسس بعض البنيان، وقد طمرت تلك الأسس وبصعوبة بالغة يتم اكتشاف تلك البقايا من الصخور. ويظهر من بقايا بيوت الجار بأنها شيدت من الحجر المرجاني المستخرج من البحر، أو المقطوع من محاجر الساحل القريبة من المدينة، وأثبتت المجسات الأثرية بهذا الموقع وجود عدد من المستويات السكنية المتتابعة، أقدمها يرجع إلى عصر ما قبل الإسلام، وأحدثها يرجع إلى القرنين الخامس والسادس الهجريين (الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين)، كما أثبتت المجسات وجود أكثر من دور واحد في بعض منازل الجار، ووجود أنظمة لتصريف المياه المستعملة.
وتقع بعض آثارها في ساحل خليج يسمى الآن (البريكة) وهي نفس الجار جنوب مدينة ينبع الصناعية وشمال بلدة الرايس، وترتفع قرابة 3.5م عن مستوى سطح البحر، وهي تلال أثرية تغطي مساحة كبيرة من الأرض، وتحيط بهذه التلال من ثلاث جهات بقايا سور بني بالحجر الجيري، وتحت هذه التلال توجد بقايا مدينة إسلامية كبيرة، وبوابتها وبقايا أرصفة الميناء، كما تنتشر على سطح موقع الجار أنواع مختلفة من كسر الزجاج، والفخار والخزف الإسلامي، وكسر من خزف السيلادون المستورد من الصين.
ذكريات الكاتب مع الجار
وهناك ميناء قديم أو مرفأ مبنى يستخدم من قبل سلاح الحدود (خفر السواحل)، ويطلق على الميناء وما جاوره حالياً «البريكة» وبدأت تظهر مدينة حديثة بجوار البريكة (الجار) هي مدينة الرايس وبدأت تزهر ويكثر البنيان وقد نظمت وزوّدت بالخدمات كاملة ومنها التعليم، حيث توجد المدارس بكافة المراحل ومنها المراحل الثانوية وتواصلاً مع الماضي فقد أسميتُ شخصياً الثانوية للبنين بالرايس: ثانوية الجار ليتعرف أبناءها على ماضي الوطن، وقد اتبعتُ هذه الطريقة في منطقة المدينة المنورة التعليمية منذ أكثر من (30) عاماً، حيث نسمي المكان بما يحببه إلى أبنائه ليعتزوا به وبالوطن كاملاً، وهي طريقة تربوية ناجحة، حيث يؤثّر المكان تماماً على ساكنه إذا عرف بأن له أهمية تاريخية ولاسيما الأماكن التي لها علاقة بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أو نزول آيات من القرآن الكريم أو الأمم السابقة التي وردت في القرآن الكريم، حيث تقع كلٌ من العدوة الدنيا والعدوة القصوى غير بعيد من الجار وقد هرب أبو سفيان بالقافلة عن طريق الساحل الذي تقع عليه الجار وهو المقصود بقوله تعالى {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ}.
وختاماً توجد جزيرة بالقرب من ميناء الجار وتذكر مصادر أن أهالي الجار قديماً كانوا يشربون الماء العذب من بئر أو آبار في هذه الجزيرة، لذا فإن ميناء الجار في حاجة ماسة إلى إعادة رصيف الميناء وتجديد المبنى وتنظيم المواقع الأثرية لآثار المباني القديمة، ولعلّ هيئة التراث تعتبر ميناء الجار والجزيرة المقابلة له من المواقع السياحية الواعدة حيث بإمكانها استخدام هذا الموقع لجميع ما يتعلق بالرياضة المائية من سباحة وتجديف وغوص وسباقات تتعلق بالقوارب الشراعية وغيرها، واستخدام أرض الجزيرة لبناء فنادق سياحية، ولاسيّما أن الماء العذب يتوفر بها، مع تجميع السفن الشراعية القديمة وبكافة مسمياتها من (سنبوك) أو (قطيرة) أو من المراكب الكبيرة، سواءً (أبو دقل) أو مركب (أبو دقلين)، إضافة إلى (الهواري أو القوارب الشرعية) وسيتكون بذلك معرض تاريخي للسفن القديمة في هذا الميناء التاريخي، وسيكون ميناء الجار مع الجزيرة المقابلة له من المواقع السياحية الهامة على ساحل البحر الأحمر حيث يعتبر الموقع امتداداً للهيئة الملكية بينبع، كما يعتبر امتداداً للمشاريع الكبرى في رابغ.