عبدالمحسن بن منصور الخميس
استمعت - واستمتعت - إلى خطبة فضيلة الشيخ الدكتور/ صالح بن عبد الله بن حميد على منبر الحرم المكي الشريف يوم الجمعة 24-11-1427هـ حول فقه الإنصات وحسن الاستماع، التي أشار فيها فضيلته إلى أن حسن الإنصات وأدب الاستماع من أعظم ما يبني العلاقات ويرسم طريق النجاح، ويرسخ الثقة في النفس ويردم الجفوة ويسد الهوة ويخفف وطأة الخلاف، وأنه أفضل طريق لإقناع الآخرين وأيسر سبيل إلى الوصول إلى الحق، كما حذر فضيلته من المقاطعة والاشتغال بإعداد الرد أثناء الاستماع، واستعجال الإجابة، وتصنع المتابعة، وعدم حسن الاستماع، ذلك أنه يؤدي لسوء الفهم وسوء الفهم يؤدي إلى ضياع الأوقات والجهود والأموال والعلاقات.
وفي ختام الخطبة حذر فضيلته من الإنصات المنحاز ممن يستمع وقد استبطن حكماً مسبقاً أو تصنيفاً حاجزاً للأشخاص أو المعلومات.
كانت هذه الخطبة وتميزها محل نقاش واستحسان في جمع شبابي، ليس لأنها خطبة جامعة شاملة، تطرقت إلى خلق مهم من الأخلاق التي حثنا الإسلام عليها، وحرمنا بسبب سوء استخدامه الشيء الكثير فحسب، وإنما مبعث الاستحسان أيضاً هذا التنوع المطلوب في الخطب والمحاضرات المحصورة سابقاً في طرق موضوعات العبادات بشكل مبسط ومكرر، أو استغلالها في إبداء الآراء الشخصية في بعض القضايا - وليس رأي الإسلام - بشكل يتصف بالإثارة ومخاطبة العواطف، والتحيز في عرض الأدلة أو الوصول إلى النتائج المستهدفة بما يضر المجتمع ولا يصب في مصلحته.
إن عدم إحسان الإنصات وإحسان الاستماع وما يتبعه من عدم المجادلة بالتي هي أحسن أسهم - إضافة إلى عوامل أخرى- في الانحراف الفكري والتشدد، الذي ما زلنا نكتوي بناره حتى الآن.
ويتواكب مع داء عدم إحسان الإنصات وإحسان الاستماع في المسار نفسه ويشترك معه في الأثر والغرض عدم القراءة المتأنية وغير المتحيزة لبعض ما يطرح من قضايا وآراء أو اقتراحات لا تتوافق مع آرائنا أو معتقداتنا، بل إن المطلوب ليس عدم استبطان الحكم مسبقاً لدى عرض المعلومة، بل المطلوب أداءً للواجب وسيراً على خطى السلف البحث عن المعلومة الحقة، وبذل الجهد في سبيل ذلك.
ما أحوجنا إلى من يذكرنا بمثل هذه الفضائل وعيا وتطبيقا، وما أجدرنا في تطبيق مضامين هذه الخطبة في البيئة الإدارية لبناء العلاقات وتقويم العمل وإجراءاته وإعطاء كل ذي حق حقه، لتكون بيئة مثالية، تسعى إلى هدف واحد، فكم من اقتراح أو مطلب مات في مهده بسبب عدم حسن الاستماع، وكم من اقتراح برز وطبق للسبب نفسه، ولا تعرف أي ميزان استخدم لقياس إيجابياته وسلبياته، ومن آثار عدم حسن الاستماع هذه الضوابط التي توضع للأمور المحمودة في مجال العمل بدلاً من عوامل الحث على فعلها. ولعل من مجالات فقه الإنصات أن يحسن مجلس الشورى الإنصات بشكل أفضل لصوت المواطن وقضاياه. إن القلب ليتفطر كمداً عندما تقرأ أو تسمع عن مواقف يبرز فيها عدم حسن الإنصات والمجادلة بالتي هي أحسن من بعض أهل القدوة، وسد الطرق أمام معارضيهم أو الباحثين عن الحقيقة بشكل لا تستطيع معه محاجة من يتعرض لهم حفاظاً على التقدير والاحترام الذي يستحقونه، وبشكل يدلل ظاهريا على ضعف موقفهم وصحة موقف غيرهم، والضرر الكبير يكمن في الاقتداء بهم في هذا المسلك، ممن يحملون لهم قداسة، والخوف يكمن أيضاً في غرق السفينة التي يعيش على ظهرها الجميع.
إن هناك انفصاماً واضحاً بين ما نعتقده مما يحثنا عليه ديننا وبين ما يجري تطبيقه في القضايا والمواقف التي نمر بها، بل تعجب كل العجب حين ترى بعضا ممن هم أهل لتمثيل تعاليم الإسلام في تعاملاتهم كالتبسم في وجوه الآخرين والمحافظة على وقت العمل ومساعدة الآخرين وغير ذلك هم أسرع الناس إلى التحلل منها.
وفي رحلة البحث عن أسباب ذلك وطرق المعالجة فإنني أشارك الأستاذ/ إبراهيم البليهي رأيه الذي أشار إليه في خاتمة إحدى مقالاته القيمة والمعنونة بـ (كيف تكونت الثقافة العربية) ومفاده «أن الثقافة العربية القائمة على العصبية والصراع والاستخفاف بالحقيقة وتذويب الفرد في القبيلة أو الطائفة أو المذهب لم تسمح لتعاليم الإسلام العظيمة أن تتحول إلى أسلوب حياة، وإنما ظل الكثير منها مجرد تعاليم تقال وتكتب لكنها لا تمارس كسلوك تلقائي».
ويطلق الأستاذ/ أبو زيد المقرئ الإدريسي، في إحدى محاضراته على هذه الظاهرة «الفكر الميت المحنط»، ويبدي تخوفه من انقراض الثقافة العربية، وأن يصبح لهذه الأمة تراث ضخم تفتخر به ولكن لا أثر لهذا التراث في سلوكها، ويدلل على ذلك بأن كل واحد منا يحفظ قوله تعالى {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} وليس هناك أكثر من العرب مباهاة في الولائم والمآتم وإهلاك الحرث والنسل في الطعام والشراب والحفلات والنفقات وغيرها، وأن الواعظ ليعظ فوق المنبر بآيات التقتير والنهي عن الإسراف، فإذا دعا شخصاً في ذلك اليوم وضع بين يديه ما يأكله مئة أو مئتان من الناس.
والله من وراء القصد ،،،،،